[17:7] - الإسراء - التنوير

[17:7] - الإسراء - التنوير

ابن عاشور

﴿إِن أَحسَنتُم أَحسَنتُم لِأَنفُسِكُم وَإِن أَسَأتُم فَلَها فَإِذا جاءَ وَعدُ الآخِرَةِ لِيَسوءوا وُجوهَكُم وَلِيَدخُلُوا المَسجِدَ كَما دَخَلوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّروا ما عَلَوا تَتبيرًا﴾ [ الإسراء - 17:7 ]

وقوله: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } من جملة المقضي في الكتاب مما خوطب به بنو إسرائيل، وهو حكاية لما في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا «وصلُّوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام». وفي الإصحاح الحادي والثلاثين «يقول الرب أزرعُ بيت إسرائيل وبيتَ يَهوذا ويكون كما سهرِتُ عليهم للاقتلاع والهدم والقَرض والإهلاك، كذلك أسْهَر عليهم للبناء والغرس في تلك الأيام لا يقولون: الآباء أكلوا حِصْرِماً وأسنان الأبناء ضَرِستْ بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحِصْرِم تَضرِس أسنانُه».

ومعنى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } أننا نرد لكم الكرة لأجل التوبة وتجدد الجيل وقد أصبحتم في حالة نعمة، فإن أحسنتم كان جزاؤكم حسناً وإن أسأتم أسأتم لأنفسكم، فكما أهلكنا مَن قبلكم بذنوبهم فقد أحسنا إليكم بتوبتكم فاحذروا الإساءة كيلا تصيروا إلى مصير مَن قبلكم.

وإعادة فعل { أحسنتم } تنويه فلم يقل: إن أحسنتم فلأنفسكم. وذلك مثل قول الأحوص:

فإذا تَزول تزول عن مُتخمّط...

تُخشى بوادِره على الأقرانِ... قال أبو الفتح ابن جني في شرح بيت الأحوص في الحماسة: إنما جاز أن يقول ( فإذا تَزولُ تزول ) لِما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة. ومثله قول الله تعالى: { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كم غوينا } [ القصص: 63 ]، ولو قال: هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئاً كقولك: الذي ضربتهُ ضربتُه. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه ( في الأصل أجزناه ) غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتُك ا ه.

والظاهر أن امتناع أبي علي من ذلك في هذه الآية أنه يرى جَواز أن تكون أغويناهم تأكيداً لأغوينا وقوله: كما غوينا استئنافاً بيانياً، لأن اسم الموصول مسند إلى مبتدأ وهو اسم الإشارة فتم الكلام بذلك، بخلاف بيت الأحوص ومثال ابن جني: الذي ضربته ضربتهُ، فيرجع امتناع أبي علي إلى أن ما أخذه ابن جني غير متعين في الآية تعيُّنَه في بيت الأحوص.

وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام بذلك الفعل. وقد تكرر في القرآن، قال تعالى: { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } [ الشعراء: 130 ] وقال: { وإذا مروا باللغو مروا كراما } [ الفرقان: 72 ].

وقوله: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها. فاللام لتعدية فعل { أحسنتم }، يقال: أحسنت لفلان.

وكذلك قوله: { وإن أسأتم فلها }. فقوله: { فلها } متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب، تقديره: أسأتم لها. وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل { أسأتم } لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها، كقوله في سورة [ فصلت: 46 ] { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها }

ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد، إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليه، فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام، أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب ( إلى )، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر.

تفريع على قوله: { وإن أسأتم فلها } [ الإسراء: 7 ]، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة.

وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله: { فإذا جاء وعد أولاهما } [ الإسراء: 5 ]، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع.

و { الآخرة } صفة لمحذوف دل عليه قوله: { مرتين }، أي وعد المرة الآخرة.

وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء.

والآخرة ضد الأولى.

ولاماتُ «ليسوؤوا، وليدخلوا، وليتبروا» للتعليل، وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث، ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف، فيتعين أن اللام الأول لام أمر لا لام جر. والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عباداً لنا ليسوؤا وجوهكم الخ.

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، وأبو جعفر، ويعقوب { ليسوؤا } بضمير الجمع مثل أخواته الأفعاللِ الأربعة. والضمائر راجعة إلى محذوف دلّ عليه لام التعليل في قوله: { ليسوؤا } إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في { وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا } [ الإسراء: 5 ]، فالتقدير: فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوؤوا وجوهكم. وليست عائدة إلى قوله: عبادا لنا } المصرح به في قوله: { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد } [ الإسراء: 5 ]، لأن الذين أساؤوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي.

وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف { ليسوءَ } بالإفراد والضمير لله تعالى. وقرأ الكسائي { لنَسوء } بنون العظمة. وتوجيهُ هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف،، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة.

وضميرا «ليسوءوا وليدخلوا» عائدان إلى { عباداً لنا } [ الإسراء: 5 ] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد، على نحو قولهم: عندي درهم ونصفه، أي نصف صاحب اسم درهم، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين: فكان هذا الإضمار من الإيجاز.

وضمير { كما دخلوه } عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى: { وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها } [ الروم: 9 ]، وقول عباس بن مرداس:

عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم...

بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا... فالسياق دال على معاد ( أحرزوا ) ومعاد ( جَمّعوا ).

وسَوْء الوجوه: جَعْل المساءة عليها، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد، كقول الأعشى:

وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق...

أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم.

ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله: { كما دخلوه أول مرة } المراد منه قوله: { فجاسوا خلال الديار } [ الإسراء: 5 ].

والتتبِير: الإهلاك والإفساد.

و { ما علوا } موصول هو مفعول «يتبروا»، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب، والتقدير: ما علوه، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب.

Report Page