[17:8] - الإسراء - التنوير
ابن عاشور﴿عَسى رَبُّكُم أَن يَرحَمَكُم وَإِن عُدتُم عُدنا وَجَعَلنا جَهَنَّمَ لِلكافِرينَ حَصيرًا﴾ [ الإسراء - 17:8 ]
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة، فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة. وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه، وقد أنذرهم النبي مَلاّخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى فلم يرعووا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان.
وبيان ذلك: أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن ( داريوس ) وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ( ميثيا ) وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح. دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم ( هيرودس ) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين، فأرسَل فيصر رومية القائدَ ( سيسيَانوس ) مع ابنه القائد ( طيطوس ) بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد، وأسر ( طيطوس ) نيفاً وتسعين ألفاً من اليهود، وقُتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني ( أدريانوس ) فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة، وذلك سنة 135 للمسيح. وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 هـ. صلحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذٍ ( إيلياء ).
وقوله: { وإن عدتم عدنا } يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة { عسى ربكم أن يرحمكم } عطفَ الترهيب على الترغيب.
ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية. والمعنى: بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلْجأون إليها، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا.
وجملة { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } عطف على جملة { عسى ربكم أن يرحمكم } لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة.
وفيه معنى التذييل لأن التعريف في { للكافرين } يعم المخاطبين وغيرهم. ويومىء هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصوراً على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة. وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء، وأرمياء، وقتل الأنبياء كفر.
والحصير: المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه، فهو إما فعيل بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق، أي محصور فيه.