[16:2] - النحل - الطبري
ابن جرير الطبري﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرّوحِ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أَن أَنذِروا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنا فَاتَّقونِ﴾ [ النحل - 16:2 ]
اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ ) بالياء وتشديد الزاي ونصب الملائكة، بمعنى ينـزل الله الملائكة بالروح. وقرأ ذلك بعض البصريين وبعض المكيين: " يُنـزلُ المَلائِكَةَ " بالياء وتخفيف الزاي ونصب الملائكة. وحُكي عن بعض الكوفيين أنه كان يقرؤه: " تَنـزلُ المَلائكَةُ" بالتاء وتشديد الزاي والملائكة بالرفع، على اختلاف عنه في ذلك، وقد رُوي عنه موافقة سائر قرّاء بلده.
وأولى القراءات بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ ) بمعنى: ينـزل الله ملائكة. وإنما اخترت ذلك، لأن الله هو المنـزل ملائكته بوحيه إلى رسله، فإضافة فعل ذلك إليه أولى وأحقّ واخترت ينـزل بالتشديد على التخفيف، لأنه تعالى ذكره كان ينـزل من الوحي على من نـزله شيئا بعد شيء، والتشديد به إذ كان ذلك معناه، أولى من التخفيف.
فتأويل الكلام: ينـزل الله ملائكته بما يحيا به الحقّ ويضمحلّ به الباطل من أمره ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يعني على من يشاء من رسله ( أَنْ أَنْذِرُوا ) فإن الأولى في موضع خفض، ردًا على الروح، والثانية في موضع نصب بأنذروا. ومعنى الكلام: ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، بأن أنذروا عبادي سطوتي على كُفرهم بي وإشراكهم في اتخاذهم معي الآلهة والأوثان، فإنه لا إله إلا أنا، يقول: لا تنبغي الألوهة إلا لي، ولا يصلح أن يُعبد شيء سواي، فاتقون: يقول: فاحذروني بأداء فرائضي وإفراد العبادة وإخلاص الربوبية لي، فإن ذلك نجاتكم من الهلكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) يقول: بالوحي.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يقول: ينـزل الملائكة (10).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) إنه لا ينـزل ملك إلا ومعه روح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) قال: لا ينـزل ملك إلا معه روح ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال: بالنبوّة. قال ابن جريج: وسمعت أن الروح خلق من الملائكة نـزل به الروح وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) قال: كل كلِم تكلم به ربنا فهو روح منه وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ... إلى قوله أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) يقول: ينـزل بالرحمة والوحي من أمره، ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) فيصطفي منهم رسلا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال: بالوحي والرحمة.
وأما قوله ( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) فقد بيَّنا معناه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده، ويطاع أمره، ويجتنب سخطه.
------------------------
الهوامش:
(10) أي بنحو ما قبله، من حديث المثنى عن ابن عباس، كما جرت به عادة المؤلف في مواضع كثيرة.