[19:6] - مريم - التنوير

[19:6] - مريم - التنوير

ابن عاشور

﴿يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آلِ يَعقوبَ وَاجعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [ مريم - 19:6 ]

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

ولذلك قال: { يرثني ويرث من آل يعقوب } فإن نُفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع.

فقوله { يَرِثُني } يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبيء ﷺ قال: " يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله "

والظواهر تؤذن بأن الأنبياء كانوا يُورَثون، قال تعالى: { وورث سليمان داوود } [ النمل: 16 ]. وأما قول النبيء ﷺ " نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركْنَا صدقةٌ " فإنما يريد به رسول الله نفسَه، كما حمله عليه عُمر في حديثه مع العبّاس وعليّ في «صحيح البخاري» إذ قال عمر: «يريد رسول الله بذلك نفسه»، فيكون ذلك من خصوصيات محمد ﷺ فإن كان ذلك حكماً سابقاً كان مراد زكرياء إرث آثار النبوءة خاصة من الكتب المقدّسة وتقاييده عليها.

والموالي: العصبة وأقرب القرابة، جمع مولى بمعنى الولي.

ومعنى: { من ورائي } من بعدي، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء، كما قال النّابغة:

وليس وراء الله للمرء مطلب... أي بعد الله. فمعنى { من ورائي } من بعد حياتي.

و { من ورائي } في موضع الصفة ل { الموالي } أو الحال.

وامرأة زكرياء اسمها أليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي.

والعاقر: الأنثى التي لا تلد، فهو وصف خاص بالمرأة، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره: العُقر بفتح العين وضمها مع سكون القاف. وأتى بفعل ( كان ) للدلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.

ومعنى { مِنْ لَدنكَ } أنه من عند الله عندية خاصة، لأنّ المتكلّم يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسْباب ومسبباتها تبعاً لخلقها، فلما قال { من لدنك } دلّ على أنه سأل ولياً غير جارٍ أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة، فتكون هبته كرامة له.

ويتعلّق { لِي } و{ مِن لَّدُنكَ } بفعل { هَبْ }. وإنما قدم { لِي } على { مِن لدُنكَ } لأنه الأهم في غرض الداعي، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام.

و { يَرِثُني } قرأه الجمهور بالرفع على الصفة ل { وَلِيَّا }. وقرأه أبو عمرو، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله { هَبْ لِي } لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السببية.

و { ءَال يَعْقُوبَ } يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ { آل المشعر بالفضيلة والشرف، فيكون يعقوب هو إسرائيل؛ كأنه قال: ويرث من آل إسرائيل، أي حملة الشريعة وأحْبار اليهودية كقوله تعالى: { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [ النساء: 54 ]، وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سننه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } [ آل عمران: 68 ] وقولِه: { ذرية من حملنا مع نوح } [ الإسراء: 3 ]، مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه.

ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان، قاله: معقل والكلبي، وهو عمّ مريم أخو عمران أبيها، وقيل: هو أخو زكرياء، أي ليس له أولاد فيكون ابنُ زكرياء وارثاً ليعقوب لأنه ابن أخيه، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكرياء من ورائه.

Report Page