[16:126] - النحل - ابن كثير
ابن كثير﴿وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ﴾ [ النحل - 16:126 ]
يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق، كما قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد، عن ابن سيرين: أنه قال في قوله تعالى: ( فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إن أخذ منكم رجل شيئا، فخذوا منه مثله.
وكذا قال مجاهد، وإبراهيم، والحسن البصري، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال ذوو منعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة " النحل " كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد، حيث قتل حمزة - رضي الله عنه - ومثل به فقال رسول الله - ﷺ -: " لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم " فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط. فأنزل الله: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إلى آخر السورة.
وهذا مرسل، وفيه [ رجل ] مبهم لم يسم، وقد روي هذا من وجه آخر متصل، فقال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا صالح المري، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - وقف على حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه - أو قال: لقلبه [ منه ] - فنظر إليه وقد مثل به فقال: " رحمة الله عليك، إن كنت - لما علمت - لوصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة نحوها - أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك. فنزل جبريل - عليه السلام - على محمد - ﷺ - بهذه السورة وقرأ: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إلى آخر الآية، فكفر رسول الله - ﷺ - يعني: عن يمينه - وأمسك عن ذلك.
وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحا - هو ابن بشير المري - ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري: هو منكر الحديث.
وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم: لنمثلن بهم. فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عيسى بن عبيد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله - ﷺ -: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى مناد: إن رسول الله - ﷺ - آمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - فأنزل الله تبارك وتعالى: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) فقال رسول الله - ﷺ -: " نصبر ولا نعاقب ".
وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله: ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ثم قال ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [ الشورى: 40 ]. وقال ( والجروح قصاص ) ثم قال ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) [ المائدة: 45 ] وقال في هذه الآية الكريمة: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) ثم قال ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )