من أعلام الجهاد الشامي - الشيخ أبو عبد الملك الشامي رحمه الله

من أعلام الجهاد الشامي - الشيخ أبو عبد الملك الشامي رحمه الله

مجلة بلاغ- العدد الثاني عشر- شوال ١٤٤١





بقلم: أبو العباس الحلبي




بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد بن عبد الله حبيب ربّ العالمين، صلى الله وبارك وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغرّ الميامين، أقاموا الدين، وجاهدوا في الله حق الجهاد صابرين مخبتين محتسبين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

جرت سنة الله في خلقه أن يفضل بعض خلقه على بعض، ففضل الأنبياء والرسل على سائر الخلق، وفضل أولي العزم من الرسل على سائر الأنبياء، وفضل الله نبيه واختاره على سائر العالمين (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

ثم اصطفى الله عز وجل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضلَّهم واختارهم ليكونوا وزراء النبي صلى الله عليه وسلم ويدافعوا عن دينه ويذودوا عن شريعته.

ولا زالت سنة الاصطفاء والاجتباء ماضية إلى زماننا هذا.

فلكل زمان رجاله الذين يصطفيهم الله عز وجل ويكتب لهم القبول في الأرض ويفتح على أيديهم البلاد وقلوب العباد، يجدد الله بهم الدين ويصلح على أيديهم دنيا العالمين.


شاء الله أن يفتح باب الجهاد في أرض الشام وهيأ له رجاله وأبطاله، فبرز فيه الأعلام وظهر النور بعد الظلام. 


أبو عبد الملك الشامي، محمود علي طيبة، علم من أعلام أرض الشام وقدوة فريدة من قدوات الجهاد، صاحب العلم الغزير والفكر المنير والأدب الوفير، عايش أحداث الثورة السورية فكان خادماً بجد لتلك القضية.


* مواليده ونشأته ودراسته:

أبو عبد الملك، محمود علي طيبة، من أبناء مدينة اللاذقية، ولد عام 1982م، نشأ في عائلة فقيرة متدينة، وبعد أعوام من طفولته توفي والده، عُرف بالتزامه الديني منذ صغره، ودرس في مدينة اللاذقية المرحلة الإعدادية والثانوية وحاز على الشهادة الثانوية عام 2002م، ثم انتقل إلى جامعة تشرين ليكمل دراسته في كلية الأدب العربي، درس سنة واحدة فقط ثم سافر للجزيرة العربية لينضم للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 2003م، وفي ذات العام استشهد اثنان من إخوته في جهاد العراق.

اهتم رحمه الله بدراسة العلم الشرعي منذ صغره، فاهتم بدراسة كتب العقيدة والفقه والحديث، وكان أيضاً صاحب همّ للدعوة ونشر العلم النافع، فقام بإنشاء صندوق لجمع التبرعات من أجل الدعوة لتسجيل المحاضرات الإسلامية وتوزيعها مع الكتيبات الدعوية.

حتى في فترة دراسته في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كان مهتماً بدعوة الطلبة، فانتشر على يديه الفكر الجهادي بين مختلف الجنسيات في الجامعة، والتحق كثير من الطلاب بالجهاد في ساحة العراق، وعندها بدأت المخابرات السعودية بالبحث عمّن يقف وراء انتشار هذه الدعوة بين مقاعد الدراسة في الجامعة.

علمت المخابرات السعودية بأمره، واشتد عليه الطلب من قِبلهم للتحقيق معه، بل كانت تحقق مع طلاب الجامعة وتسألهم عن محمود طيبة بعد استشعارها خطورة دوره الذي كان يقوم به، قرر العودة لسوريا قبل أن يتم اعتقاله مِن قِبلهم، وليدخل بعدها أرض العراق ليشارك إخوانه الجهاد هناك، لكن المخابرات السورية كانت بانتظاره وتم اعتقاله بعد وصوله؛ ليسجن سبعة أعوام في معتقلات النظام السوري، آخرها سجن صيدنايا.


* اعتقاله وسجنه: 

اعتقله النظام المجرم بعد وصوله لسوريا في نيسان عام 2004م من قبل فرع الأمن، وقاموا بمداهمة بيته وصادروا جهاز الحاسوب الخاص به وكتبه، وحكم عليه بالسجن لمدة سبعة أعوام.

سجن الشيخ أبو عبد الملك رحمه الله في سجن صيدنايا، وحضر إضراب السجن وعايش أحداث مجزرة صيدنايا لحظة بلحظة.

أنهى الشيخ رحمه الله فترة اعتقاله وخرج من المعتقل في 2/3/2011م، ليلتحق فوراً بركب الثورة السورية وشارك في أول مظاهرة انطلقت من جامع خالد بن الوليد في اللاذقية.


* التحاقه بالثورة والجهاد: 

لم يتوان أبداً عن المشاركة في المظاهرات التي انطلقت تنادي بإسقاط النظام النصيري، وتناصر أهل درعا مهد الثورة السورية.

بقي الشيخ في مدينة اللاذقية حتى تاريخ 27/7/2011م، أي بعد ثلاثة أيام من اجتياح قوات النظام المجرم منطقة الرمل الجنوبي، ليتوجه الشيخ فوراً لمنطقة جبل الأكراد وانتقل لمخيم (يلداغي) التركي، فاستلم فيه الأمور الشرعية والدعوية، وبدأ يحض الناس على الجهاد ويحرضهم على القتال في سبيل الله عز وجل، ولم تكن وقتها قد تأسست كتائب أحرار الشام.


* انضمامه لكتائب أحرار الشام وعمله في صفوفها:

مع أول تشكيل كتائب أحرار الشام انضم لصفوفها وكان من أوائل المؤسسين لها، وأحد أهم رجالاتها، فاستلم فيها الأمور الشرعية بتكليف من الشيخ حسان عبود رحمه الله مؤسس كتائب أحرار الشام، ثم عندما اندمجت مع عدة ألوية تشكلت حركة أحرار الشام الإسلامية، وكان الشيخ رحمه الله أحد أعضاء مجلس الشورى، ثم تسلم الشرعي العام للحركة، ثم الشرعي العام للجبهة الإسلامية.


تولى مهمة الشرعي العام لحركة أحرار الشام الإسلامية وكذلك الجبهة الإسلامية فسار في مهامه بالشورى، فكان كثير المشاورة للعلماء وطلبة العلم من داخل الأحرار ومن خارجها، ومن داخل الشام ومن خارجها، وكان يرسل الفتاوى والمقالات والنوازل قبل اعتمادها لمن يحسن الظن فيهم على تعدد مدارسهم ليستفيد بعلمهم ويزداد طمأنينة في عمله.


* عمله: 

حرص رحمه الله أشد الحرص على تعليم الشباب المجاهد أمور دينهم وتثقيفهم والاهتمام بما لا يسع المسلم جهله، فكان في أوائل عام 2012م يقيم الدورات والمعسكرات الشرعية ويدرس فيها بنفسه، مع أنه كان يعاني من مرض في حنجرته، فلا يستطيع التكلم لفترة طويلة؛ حتى إنه في إحدى المرات كان يعطي درساً فثقل عليه المرض كثيراً وذهب صوته.

لم يكتف بتعليم عامة المجاهدين، بل اعتنى أيضاً بتخريج طلاب العلم فعمل الدورات الشرعية والبرامج العلمية التي ترتقي بمستوى الدعاة والقضاة، فكان لها أثر ملحوظ في إثراء البيئة العلمية في الثورة السورية.

وكان رحمه الله يهتم بالثغور والجبهات وشؤون المجاهدين، فعندما ضاق الأمر على المجاهدين في حلب أخرج كلمة صوتية يستنهض فيها المجاهدين لنصرة حلب وكان لها الأثر الطيب.


* موقفه من الغلاة والخوارج:

عايش فتنة خوارج البغدادي يوماً بيوم، وحادثة بحادثة، وقضية بقضية، حاول جاهداً أن يَصِل معهم لخطة رشد تعظم فيها شعائر الله، أو حل وسط يحافظ على مكتسبات الجهاد، ولكنه ووجه بأهوائهم وجهالاتهم التي أضرت بالساحة كاملة، وعمل كذلك على تحذير المجاهدين من خطر هؤلاء الجهال، فكان يزور مجاهدي أحرار الشام في عامة المناطق المحررة ويسافر من مدينة لأخرى ومن قرية لقرية يحاضر في التحذير من الغلو، وبيان خلل فهم جماعة البغدادي لمفهوم الدولة والحكم.

تصدى لهم، وكان شديداً عليهم، حذر منهم ومن فكرهم الخبيث قبل إعلان تمدد دولتهم، وكان من أول من ناظرهم وكشف ضلال منهجهم.

ولقوة حجته جلس في إحدى المناظرات مع ثلاثة من شرعيي داعش، فناظرهم بمفرده وأقام عليهم الحجة والبرهان، فتم فض الجلسة لعدم قدرتهم على إكمالها.


ولما أعلن البغدادي قيام خلافته المزعومة كان من أول الردود عليه رد الشيخ أبي عبد الملك، حيث أخرج كلمة صوتية بعنوان "وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون" بيَّن فيها ضلالاتهم وفساد منهجهم.


وكان أيضاً صاحب موقف شديد من جماعة حزب النور وكان يبغضهم ويكرههم، وكان يرفض فكرة الانتخابات والبرلمانات رفضاً شديداً، وفي نفس الوقت هو ضد الغلو وتكفير المتأول الذي يدخل البرلمانات بتأويل، كالإخوان وغيرهم.

وروى لي أحد طلبة العلم الذي كان حاضراً مع الشيخ في أحد البيوت عام 2012م أي قبل ظهور فتنة جماعة البغدادي، أن شاباً يحمل نزعة غلو جعل يتكلم بأن كل من دخل برلمان سواء بتأويل أو غيره فهو كافر، فسأله الشيخ: الشيخ عبد الله عزام كافر؟ قال: لا، بل هو شيخ المجاهدين.

قال الشيخ: الشيخ عبد الله عزام أفتى بدخول البرلمان بشروط، فلماذا لم تكفره مع أنه لا يوجد في موانع التكفير شيء اسمه عبد الله عزام، فسكت الشاب ولم يرد على الشيخ رحمه الله.


* مناقبه:

إن المقام ليضيق عن الكلام في مناقبه رحمه الله ولكن باختصار كان رحمه الله كثير العبادة، قليل النوم، شديد الورع، عزيز النفس، قوي الذاكرة، محباً للعلم شغوفاً به، زاهداً خلوقاً مؤدباً، متقللاً من الدنيا راغباً فيما عند الله.

يحفظ القرآن الكريم وتفسيره عن ظهر قلب، ويحفظ كتب الحديث الستة، وكثيرا من المتون العلمية كـ (زاد المستقنع وغيره).

وقد روى أحد طلابه أنه كان يُدرسهم يوماً في مادة أصول الفقه، فكان جميع الطلبة يقرؤون من الكتاب الذي بين أيديهم إلا هو فكان يقرأ من ذاكرته كما هو مكتوب في الكتاب تماماً، بل كان إذا قرأ الصفحة مرة واحدة حفظها فوراً وذلك لقوة ذاكرته.


كان كثير السفر والتنقل بين البلدات والمحافظات السورية (لحل المشاكل وفض النزاعات وحث الناس على الجهاد) فكان في طريقه يراجع المسائل العلمية الفقهية مع من معه من طلبة العلم والمشايخ.


اشتهر رحمه الله بورعه الجم الذي أذهل به من لازمه وعرفه عن قرب، فكان لا يرضى لنفسه ولمن معه الرفاهية من مال الجهاد، وأحيانا لا يرضى أن يركب سيارة بنزين وذلك لغلاء مادة البنزين وقتها، ويأبى على من يرافقه أن يشتروا شيئاً لأنفسهم من مال الجهاد، حتى إن السيارة التي يقودها كان لا يقوم بتشغيل الهواء البارد فيها وذلك لأنه يأخذ من كمية المحروقات الموجودة في السيارة، وكان يأمر السائق إذا نزل من السيارة ليشتري مثلاً من البقالية أن يطفئ السيارة خشية الإسراف من المال العام.


وعرف عنه أيضاً أنه قليل الأكل والطعام، فأخبرني من لازمه أنه يستطيع قضاء يومه بأكمله على تفاحة واحدة، وقد حصل هذا مرارا.


ولشدة إخلاصه كان إذا سأله أحد عن فترة سجنه والأحداث التي حصلت معه في السجن لا يروي منها شيئاً ولا يعجبه ذلك؛ حفاظاً على الأجر والثواب، وخوفاً من ضياعه. 


* كتاباته:

كتابات الشيخ رحمه الله تنم عن سعة علم وقوة فهم ورجاحة عقل، وحرص على ساحة الجهاد.

ولا زالت بعض كتاباته حية موجودة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتغريداته حاضرة على برنامج (تويتر) لا تزال تُقرأ إلى الآن ويستفاد منها.

ومن مقالاته الرائعة وتغريداته القيمة:

- نصح وشكر لجبهة النصرة.

- التكفير بغير حق.

- جرثومة التحزب.

- السرورية.

- ظاهرة التخوين.

- الصحوات (نشأتها - أسبابها - علاجها)

ومن تغريداته:

- "إن قيمة الجندي عظيمة عند القائد، فما انعقدت بيعة الرضوان إلا من أجله، وما غزوة مؤتة ولا تسيير أرتال جيش العسرة إلا ثأراً له".

- "صدق من قال في الإمارة: تولاها وليس له عدو، وفارقها وليس له صديق".

- "النقاء المنهجي حقيقته وميدانه التعاون على البر والتقوى والتضحية في سبيل تحقيق مصالح المسلمين العليا، وليس اعتلاء برج عال لتصنيف المجاهدين".

- "من التحزب المذموم أن تقف مع الظالم من حزبك ضد المظلوم من حزب آخر. #جرثومة_التحزب".

- "سنة الله التي لم تحاب الأمويين ولا العباسيين لن تحابي من يخذل حلب اليوم ويدع المجوس تعبث بنسائها ويحسب أنه بمنأى عن ذلك #استنفار_لإنقاذ_حلب".


وغيرها الكثير التي أنصح بقراءتها والاستفادة منها لتصحيح المفاهيم المغلوطة ولعلاج الظواهر الخبيثة والأمراض المنتشرة في الساحة الشامية اليوم.


* وفاته:

توفي رحمه الله في التفجير الذي حصل في بلدة رام حمدان في ريف إدلب، مع قادة أحرار الشام، وكان له عند وفاته ولد صغير وكذلك كانت زوجته تحمل في بطنها بنتاً ولدت بعد وفاته رحمه الله.


* نسأل الله عز وجل أن يتقبله في الشهداء وأن يجزيه عن أمة الإسلام خير الجزاء، وأن يجمعنا به في منازل الجنة العلياء.

والحمد لله رب بالعالمين.




هنا بقية مقالات العدد الثاني عشر من مجلة بلاغ


Report Page