جوع - الجزء الخامس

جوع - الجزء الخامس

Alloush

أستيقظ منتصف الليل ويديّ غارقتين بدفىء الدماء، أتلمس كلا الكفين في عتمة الليل، أجدهما مبللتين بالعرق وأنفاسي تكاد تقف من شدّة توتري. أودّ لو أفعلها مجدداً. أن أعود لأقتله ألف مرة. أن أقطّع أوصاله وأصيخ السمع لصوت جسده وهو يتمزّق. أن أشعر بدماءه الحارّة وهي تسيل من بين أصابعي.

أعود للنوم.

استيقظت أخيراً على سرير جدي والشمس تتسلل بخجل من بين ستائر النافذة، وقفت منتصباً، أمسكت الغطاء، كان ناعم جداً، بدأت بترتيب السرير وفي رأسي سيمفونية موسيقية تدور بترتيل سريع.

الأفكار تتفجر وتتبعثر في رأسي، أرتّب حواف السرير وأشدّ غطاءه، أنظر إليه من بعيد وأشعر بالفخر من بداية يومي!، عظيم.

Phantom Crying in the Shower
Lauryn Ahearn

المنزل ليس بحالة يرثى لها، ويبدو أنّ هناك من يعتني بالمنزل بين كلّ فترة وأخرى، ربما هو أخي.

الآلام في جسدي تأبى الزوال، وكأنّ الألم الأول يتلاشى ليعود بقوة من جديد من أعمق نقطة في عظامك حيث مستقره، كلّ خوف وكلّ رعب يتشكل في جسدك ويدخل في ثنايا ذاكرتك حتى يصبح هويتك، النسيان لن يكون خياراً في هذه الآلام.

تقدمت من الخزانة حيث وضعت اللوحات فتحت درفتي الخزانة المزدوجة، ووجدت جميع اللوحات مرتبة كما تركتها.

أمسكت جوال خاطفي -المغدور- بيدي، أواظب على شحنه، لا بدّ أن يتصل أحدهم.

لا كهرباء مستقرة، ولا سبيل لأخذ حمام ساخن، الجوّ بارد، الشتاء قادم!.

عريت جسدي بالكامل، أمسكت مقص قديم، وقصصت شعري الزائد من كلّ أطراف جسدي، دخلت الحمام وفتحت الصنبور لتتدفق المياه الباردة بقوّة، استجمعت قواي وقفزت نحوها.

لم أتمالك نفسي، المياه الباردة لا تذكرني إلا بالضعف، والعذاب والخوف، أمسكت بطرفي حوض الاستحمام وجلست القرفصاء وأنا أتنفس بقوّة وأسمع ضربات قلبي وهي تكاد تقفز من هول المياه الباردة، ما هي هذه الحياة!؟، ما جدوى هذه الأيام العصيبة!؟، ما الحكمة من كلّ ذلك، صورة خاطفي وهو يستقر على الأرض بين يدي، وأنا أشاهد بنفسي كيف سلبته الحياة من ضياء عينيه. من أنا لأسلبه حياته!.

انتابتني قشعريرة غريبة، فأمسكت الصابون والاسفنجة وبدأت أفرك نفسي بقوة وعنف، ومع المياه الباردة لم أعد أشعر إلا بوخز غريب على أطراف جسدي، أفرطت في الفرك وربما الاسفنجة كانت متخشبة، فخدشت بشرتي وبدأت خيوط من الدماء تتسربل مع رغوة الصابون، شعرت باليأس، والغضب، والخيبة.

وقفت منتصباً تحت المياه ورميت الاسفنجة والصابونة بقوّة نحو الحائط، ولم أعد أشعر ببرد المياه، أصبحت دافئة بشكل غريب، ارتجف جسدي، وخارت قواي، استندت إلى الحائط، ثم تكورت على نفسي مرتجفاً تحت المياه، وقد اختلط دمعي مع مخاطي.

ثم ساد صمت، ولم أعد أسمع سوى صوت المياه يغلفني، ربما دقيقة أو دقيقتين، لكن في النهاية عزمت على الوقوف من جديد وبدأت باستكمال حمّامي، خرجت عارياً، بدأت بتنشيف نفسي ببطىء، أخرجت ثياباً قديمة لي وارتديتها على مراحل طويلة من الشرود والتأمل الغريب لنفسي.

قررت الذهاب إلى منزلنا، هل أخي هناك؟!، هل عادت أمّي!؟، هيفين!، ماجد!. فاتني الكثير. 

أمسكت المفاتيح وهممت بالخروج، وجدت بضع قطع نقدية قد تنفع في النقل الداخلي، شعرت بأنّ أحدّ ما دسسها ليّ، نظرت في الفراغ تهيأ لي جدي وهو جالس رافعاً لي الكأس محيياً اياي!، حييته بصمت وخرجت.

بدأت السير وسط البشر!. 

أدقق في سحناتهم وأستغرب كثرة الوجوه التي أشعر بأنها مألوفة، لم أعد أستطع تمييز الوجوه الجديدة، العالم أصبح رمادي للغاية بالنسبة لي، لا أدري لماذا حقاً الناس تشعر بالحماس تجاه أشياء مكررة، هل انتهى دولاب حياتي وعاد الكرة من جديد، كل شيء يبدو مكرر ومفتعل!.

من المزعج جداً أن تعيش حالة مكررة، ليس لدي مشكلة مع الروتين بحق، لكن أن تجلس في باص النقل الداخلي وتسمع من خلفك صبية يتحدثون ويتهامسون بأشياء كنت قد تحدثت بها وتهامست بها قبل سنوات خلت، ذات الجدال، ذات المعضلات، ذات الأحلام، ذات الأوهام!.

لم يرن الجوّال بعد!.

اقتربت من المنزل، وصعدت الدرجات، بضع ضربات على باب المنزل، وفتح الباب على مصراعية بسرعة، كاد قلبي أن ينخلع من فرحته لكن لم أجد أحداً!. استغربت، نظرت للأسفل، كان طفلاً صغيراً، هل أخطأت في المنزل!، لا!، هو ذاك البيانو أمامي، دفعت الولد بدون مبالاة ووصلت إلى منتصف الغرفة، شاهدت فتاة وهي مذهولة من جرأتي، كادت أن تصرخ لكنها ذهبت إلى غرفة أخرى وعاد رجل كهل!.

نظرت إليه مدققاً، من أنت!؟. هذا منزلي!.

أجابني بغضب مسيطر عليه!، بأنه مستأجر، دعاني للجلوس فقد تعرف علي فوراً، يعرف قصة اختطافي وربما شرح له أخي أنّه قد آتي في يوم من الأيام، في كلّ حديثة لم أستطع استيعاب كيف استطاع أخي تسليم البيت للايجار دون سحب البيانو منه!، اذ في لحظة ما من الماض وصلت لقناعة أنّه لا يأتي إلى حلب إلا من أجله!.

شعرت بخيبة أمل! توقعت أنّ أمي ستقطع غربتها وتنزل!. لكن لا شيء من هذا حدث، ربما لم يتوقعوا أن أعود!. عودة المخطوفين في هذه الحرب تكاد تكون مستحيلة. ما أصعبه من شعور، بدأت بالتفكير بشعور والدتي وهي تبكي وتفكر بي، وددت بالفعل لو وصلها خبر مقتلي على أن تجلس وهي تتألم وتسأل الآلهة عن مصيري!.

تلفون من دقائق معدودة كان مليء بالحماس والمشاعر، لم أستطع أن أسيطر على نفسي، فور سماع صوت أخي حتى انهارت دموعي وسمعته من الطرف الآخر يبكي فرحاً وألماً، حتى المستأجر أمامي بدأ بمسح دموعه، وابنته من الطرف الآخر من الغرفة كانت تصغي لما يحدث من قصة درامية ربما سترويها لأصدقائها، وبدأت بدورها تبكي وأنفاسها مسموعة وهي تحاول كتمانها.

قصة غير مكررة!.

لقد فقدت الحماس للحياة!.

هكذا قال لي ماجد، وهو يصحح من جلسته في المقهى الجديد، بعد اغلاق الأخير وافلاسه لم يجد ماجد سوى مقهى سيء الخدمة وكراسيه غير مريحة، لا نوافذ ملونة ولا جرس، يلف محيطه غمامة من الدخان الكثيف. لكنه رخيص ويتحمل جلوسه الطويل!.

هذا هو تحليله لما بعد الصدمة. ربما لم يكن علي أن أسرّ له ما بداخلي، لديه تلك النزعة التحليلية لكلّ شيء، لا يمكن لهذا الرجل أن يقول لك لا أعرف لأي شيء!، العجيب أنني أرى في كلامه الكثير من المنطق، وبالبداية لا أكون منتبه لما يقوله لكن لاحقاً عندما يبدأ بذكر بعض النقاط يدفعني لأن أنتبه أكثر ولا أجد نفسي بعدها إلا غارقاً في الاستماع إليه وهو يشرح ويشرح وجسده السمين يهتز لدى أدنى انفعال من يديه اللتين يستخدمهما بتوتر أثناء انهماكه بالحديث.

شعرت بالسعادة عند معرفتي بأنّ ماجد على حاله!، لا تغيير يذكر!، حالة مستقرة مستمرة لا تميّز التكرار فيها!. اذ لا بداية ولا نهاية واضحة!.

هي الصدمة يا صديقي أكمل حديثه، ما تعرضت له ليس بالشيء السهل، وفي غير دول ربما تكون الآن تحت وصفات طبية وزيارات واستشارات.

عندما أستمع له أقارن أقواله وأقلبها في نفسي، في الحقيقة لم أخطره بما حدث كاملاً، لم أخطر أحداً أبداً أنني مزقت شرايين خاطفي وعبثت بدمه، لم أخطرهم بأنني أثناء دفعي لتلك السكين في جسده شعرت بدفء دماءه تسيل على كفيّ، وكم كان شعوراً رائعاً.

اكتفيت بالقول أنني تعرضت للخطف وتم رميي بعد أن يأسوا في الريف القريب ثم اهتديت للمدينة، البعض صدق تلك القصة مباشرة. البعض شكك قليلاً، لكن في النهاية، يرفعون كؤوسهم محيين عودتي!.

وهنا تدرك أن موضوع خطفك من تركك لا يشكل الشيء الكثير بالنسبة له، هو مستعد أن يصدق أيّ شيء تقوله، في عزاءه لك أنه لم يفت عليك الكثير خلال هذه السنة، لا ينقص سوى أن يقول لك، كم كنت محظوظاً في خطفك، على الأقل كان خاطفك متكفل بتأمين الطعام والشراب لك!.

بالفعل يا ماجد، لم أعد أشعر بالحماس للحياة، لكنني مصرّ على متابعتها!، ما يثير قنوطك بالفعل هو ذلك التواصل الذي يضعك موضع المقارنة مع الغير لتدرك بأنّ ما تعيشه لا يرتقى أصلاً لمستوى "الحياة"، هو الشعور باللاجدوى!. شعور مرير، مخيب للأمل محبط للغاية، أن تصل لهذا الشعور فهو الانكسار بحق.

لا أجد جدوى من أي شيء، أنت جزء صغير تافه من منظومة ضخمة معقدة من القوانين والأنظمة والسياسات التي فرضت وجودك وقيدته في هذا المكان، في أيّ مكان.

يصبح أيّ قرار تتخذه في سبيل المضي بحياتك هو عرقلة اضافية لحياتك المعرقلة فتشعر بالضرورة أن تنعزل وتعود لخطوطك الأولى لمواجهة القادم الأصعب.

منذ زمن سحيق لم أسمع أحدهم يتحدث ويتكلم بكلمات أشعر بأنها تشكل محتوى جديد عن ما هو مكرر ومألوف!، كلمات تصيب غاية المصيبة!. كل شيء يتكرر ويتكرر بلا جدوى.

أشعر بحزن عندما أنظر لماجد وهو يتحدث ويتحدث أراقب شفتيه وهي تتحرك، بت أحدق في عيون الشخص وأشرد في سوادها الحالك، لدرجة يتوقف وينهرني لماذا أنظر إليه بهذه الطريقة!.

هذه الطريقة!.

ما هي الطريقة لتنظر لأحدهم، ذلك السواد العميق في حدقة العين، يا له من فراغ، يا له من يأس وقنوط.

كل شيء يتكرر من جديد. 

ولم يرن الجوّال بعد!.

Report Page