الوجوه في نقض نظرية التطور عقلا
الوجه الأول: أن العلم التجريبي حجيته تدور على العادة والاستقراء: فلا بد أن يكون موضوع أي بحث إمبريقي قابلا للرصد المباشر، أو قابل للقياس على نظير له في عادتنا analogous، ونشأة الحياة والتطور الكبروي لا نظير له في عادتنا، فعلى ماذا نقيس أصلا؟! ومن ثم فقد انسد باب معرفته من الطريقة العلمية scientific method. فليس في عادتنا إلا التطور الصغروي، ودعوى أن الصغروي يؤدي إلى الكبروي مع مرور الكثير من الوقت، مفتقرة إلى مستند استقرائي يدعمها.
فالمعرفة إما أن نشأ عن استقراء أو عن استنباط، والتطور لا يدل عليه الأول ولا الثاني، فلم يمكن إثباته. كما قال آدم سيدجويك Adam Sedgwick - أحد مؤسسي علم الجيولوجيا الحديث-: «ولكن عليّ أن أبتدئ بالقول أن نظرية داروين ليست استقرائية، فهي لا تقوم على سلسلة من الحقائق المعترف بها التي تؤدي إلى استنتاج عام، وليست مقولة تستنبط من الحقائق منطقياً، وتشملها بالطبع. وكما قيل في القديم، أنظر إلى هذه النظرية كهرم عظيم يرتكز على قمته (أي قيام الهرم على رأسه)».
Quoted in David L. Hull, Darwin and His Critics: The Reception of Darwin’s Theory of Evolution by the Scientific Community (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1973), pp. 155–170.
الوجه الثاني: أن المنطق العقلي الذي يقوم عليه مبدأ الاستقراء يوجب أن يكون له حيز مكاني وزماني، وحدث نظرية التطور خارج حيز الاستقراء أصلا. يوضحه: أن حجية الاستقراء عقلا تعود إلى أن العلم بمجموع جزئيات في حيز مكاني وزماني معين بتراكم واستفاضة العادة، يُمَكِّن من الكشف عن نمط ونظاميات سببية داخل هذا الحيز، وعلى هذا الأساس يطرد العقل ذلك بلِحاظ النمط بما يُمكن من التنبؤ بالمستقبل داخل هذا الحيز. على سبيل المثال هب أنك تعيش في منطقة معينة حيث كل البجع الذي رأيته في حياتك أبيض، كل بجعة رأيتها يدخل فيما سميته "جزئيات"، مع تراكم عدد المشاهدات للبجع منذ زمن طويل يمكنك أن تقول: «كل البجع في منطقتنا أبيض»، ولكن لا يمكن أن تقول: «البجع في منطقتنا لم يزل أبيض»! وكذلك التطور، لماذا نؤسس النموذج تأسيسا على الاستقارائات الحالية، رغم أنه لا يوجد مبرر عقلي على اطراد القوانين الحالية إلى ما قبل الحدث المُراد إثباته (فقد حصل قبل ملايين السنين)!
الوجه الثالث: التطور بصفته إحالة إلى أفضل تفسير inference to best explanation لا يمكن دحضه تجريبيا وفق معيار بوبر (لو سلمنا بصحته كمعيار موضوعي للتفريق بين العلم الطبيعي والعلم الزائف -وهو ليس كذلك-): وذلك أن النظرية التفسيرية تنطلق أولا من فرضية، ومن ثم تفرع على تلك الفرضية، فإن كانت تلك الفروع مطابقة للواقع، كانت النظرية ناجحة وإلا فلا. ومن ثم فأصل نظرية التطور ليس قابلا للتجريب من حيث التعريف، وأما الفروع: فليس في الأصل قوة تنبؤية قوية Predictive Power تحدد لنا فروعا معينة متى ما اجتمعت بطلت النظرية، بل ما من مشاهدة إلا وهي قابلة للتأويل بل وإعادة هيكلة النموذج بأكمله حتى يصير مناسبا لها، فبعبارة أخرى: النموذج التطوري يتسم بأنه مرن flexible بحيث لا يتصور أن يوجد ما يعارضه من المعطيات التجريبية دون أن يتكيف النموذج معه. بل لم ينشأ السجل الأحفوري الحالي إلا بهذا، فمتى ما خالفت حفرية نموذجهم، لم يفكروا في بطلان النموذج بأكمله (رغم كونه مجرد فرضية في الأصل، وهذا شأن الاعتقاد الديني في الحقيقة، لأن الفرضية في المنهجية العلمية الصحيحة لا يجب أن تؤول المعطيات حتى توافقها أصلا، وإنما المخالفة تدل على بطلانها، أو على التكافؤ بحيث يتعذر الترجيح)، بل عدلوه حتى يناسبها بفرضيات إنقاذية Ad Hoc Adjustments (كما تم تقديم مفهوم التوازن المتقطع punctuated equilibrium لشرح الثغرات في السجل الأحفوري دون تحدي الفرضية الأساسية للتطور). فليس في الحفريات ما دلنا على أصل الميثولوجيا التطورية، وإنما المشاهدات هي التي تطوع تطويعا لموافقة النظرية -فيما يمسى في فلسفة العلم Theory-Laden Observations-، فلا يمكن إثبات أن الحفريات عبارة عن أشكال انتقالية transitional forms، من غير افتراض صحة أصل التطور أصلا! فإن كان أصل النظرية لا دليل عليه، والفروع لا تدل على المطلوب أيضا ولا تدل على صحة الفرضية الأصل، فماذا بقي يا عقلاء؟!
الوجه الرابع: المعارضة بمشكلة التكافؤ Underdetermination (وهذا على سبيل التنزل في معقولية البحث من مبدأ الطرح، وقد قدمنا أنه ليس كذلك)، فإن التشابهات الجينية أو الأنماط في السجل الأحفوري - يمكن تفسيرها من خلال نماذج بديلة، مثل التصميم الذكي، أو أشكال مختلفة من التطور الموجه (فيقال مثلا في تفسير التشابهات الجينية: أن المصمم مشترك، بدلا من كون السلف مشترك!). وليس في نفس هذه الأدلة ما يدلنا أن التطور هو أفضل تفسير لهم، ولا يوجد مستند عقلي لترجيح التطور على غيرها من النظريات، بل لم تشتهر نظرية التطور دون غيرها في الأكاديميا الغربية إلا لفشو النفس الطبيعاني naturalism بينهم.