الوجوه في إبطال التأويلات لصفتي الغضب والمحبة

الوجوه في إبطال التأويلات لصفتي الغضب والمحبة


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيه بعده: أما بعد، فإن الأشعرية الجهمية يردون صفتي المحبة والغضب بأنواع من التأويل المحال، فيقولون أن المحبة ليست إلا إرادة الاحسان والانعام، والغضب ليس إلا إرادة العقاب، وهذا نقض لتأويلهم من وجوه -والله أرجو التوفيق والسداد-:

الوجه الأول: أن هذا قول تدفعه بداهة اللغة، فإن الغضب هو ما يقتضي إرادة الانتقام، فهو سبب له وليس هو هو، ويسعنا أن نقول في تفسيره تنزلا -وإن كان معنى ظاهرا لا يحتاج لذلك-: أن الغضب هو السخط -كما في الكتاب-، وبها يقابل الله عبده إن خالف مراده الشرعي، وتقتضي إرادة عقابه بأنواع من العقوبات في الدنيا أو الآخرة، وهذا المعنى هو كمال لا نقص فيه إن كان فيمن يستحقه. ومثله يقال في المحبة من كونها صفة فعلية، لنا أن نقول تنزلا في شرحها: هي الود، وتتعلق بالمحبوب وتقتضي تقريبه وتفضيله وإرادة إكرامه والإحسان إليه.

فإن أبى المعارض إلا أن يختزل هاتين الصفتين في بعض العمليات الفيزيولوجية (كقولهم الغضب غليان الدم -وهو خطأ حتى في المخلوق-): نقضنا عليه بما تقدم من مخالفة اللغة والبداهة، وبالقلب بأن يقال: ما الإرادة إلا ميل القلب لما يجلب لذة وسرورا أو يدفع ألما وحزنا؟ وهذا ما حدا بالرازي إلى نفي الإرادة قائلا : «فثبت بما ذكرنا أنا لا نعرف البتة من معنى الإرادة والكراهية إلا ميل الطبع إلى جلب المنافع وميله إلى دفع المضار، ولما كان ذلك في حق الله تعالى - ممتنعا كان إثبات الإرادة في حقه غير معقول. وهذا تمام الكلام في البحث عن معنى الإرادة والكراهية». وما الحياة إلا بضعة عمليات فيزيولوجية (كما هو مذهب بعض الطبيعيين فعلا)!

الوجه الثاني: أن هذا التأويل تدفعه الأدلة الشرعية، قال الرب جل ثناؤه: ﴿فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين﴾، أجمع المفسرون أن آسفونا ها هنا تعني أغضبونا، ففيه التفريق بين الغضب وإرادة العقاب. فالغضب اقتضى إرادة الانتقام، وليس هو هي. وقال سبحانه: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، فعقابه مخالف للغضب الذي اقتضى عقابه، والعطف يقتضي المغايرة.

وكذلك المغايرة بين السخط وإرادة الانتقام في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾، فهاهنا سخط حدث بعد اتباعهم ما أسخط الله، بينما إرادة الانتقام والعذاب الموعود لم يقعا بعد، فضرب الملائكة حاصل بعد الموت، وما زال باب التوبة مفتوحا ودعوتهم قائمة، ولو كان السخط إرادة انتقام والعذاب لكان المراد متحققا إذ السخط في الآية متحقق ثابت.

وفي حديث الشفاعة: «قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله». أقول: فهل تأويله قد أراد الله بقوم عذابا لم يرد لأحد منهم مثله؟ هذا ظاهر البطلام فإن الغضب ها هنا حاصل قبل العقاب!


الوجه الثالث: عبد الله بن دينار، وسهيل عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «إن الله عز وجل إذا أحب عبدا دعا جبريل ، فقال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله عز وجل إذا أبغض عبدا دعا جبريل، فقال: يا جبريل، إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض».

أخرجه مالك (٢٧٤٣)، والطيالسي (٢٥٥٨)، و «عبد الرزاق»، (١٩٦٧٣)، وأحمد (٧٦١٤)، والبخاري (٧٤٨٥)، ومسلم (٦٧٩٨)، والترمذي (٣١٦١)، والنسائي في «الكبرى» ٧٧٠٠)، وأبو يعلى (٦٦٨٥).

قلت: وهذا يدفع كل تأويل لصفة المحبة للباري جل شأنه، فإن كان حب الله ليس إلا إرادة الاحسان، فهلا كان حب جبريل وباقي أهل السماء كذلك؟


الوجه الرابع: أن هذا تأويل مستلزم للوازم في غاية الفساد، فإن كان الغضب حقا هو إرادة العقاب، أليس الله غاضبا على الكفار والظلمة، محبا للمؤمنين؟ فلم نرى أن الله يسعد الكفار ويعاقب المحسنين؟ فهل إنعامه وإحسانه على الكافر حب له؟؟ وهل ابتلاء المؤمن بعذاب في الدنيا غضب عليه؟؟ فما الفرق إذن بين المغضوب عليه والمبتلى؟ كلاهما أريد به عذاب وعقاب؟ فهل الإرادة كالإرادة؟ ثم إن أهل الاسلام مجمعون على أن الله يحب تشريعاته وأوامره، فهل يا ترى يريد الإنعام والإحسان على تشريعه؟! تالله قد خالفتم المنقول والمعقول واللغة والإجماع جميعا، فهل أنتم راجعون؟


Report Page