الدروس المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة2. الإسلام التزام وعمل وانضباط
nabulsi.com - سورة الذاريات, الترمذي عن أنس رضي الله عنه, أبو داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه, أبو داود عن عوف بن مالك رضي اللالخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تلخيص لما سبق :
أيها الأخوة الكرام: لا زلنا في موضوع الهجرة، وقد بينت لكم في الخطبة السابقة أن العبرة لا أن نطلع على وقائع الهجرة، بل العبرة أن نستشف الدروس والعبر التي نتعلمها من الهجرة، وبينت لكم أن النبي عليه الصلاة والسلام أكد أن باب الهجرة بين مكة والمدينة قد أغلق، فلا هجرة بعد الفتح، لكنني ذكرتكم أن الهجرة قائمة إلى يوم القيامة بين كل مدينين تشبهان مكة والمدينة زمن الهجرة، وبينت أيضاً أنه حينما لا يستطيع إنسان في مكان ما أن يعبد الله إما لضعف داخلي أو لقهر خارجي، فينبغي أن يتحول إلى بلد يعبد الله فيه، لأن العبادة علة وجوده في الأرض.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
[ سورة الذاريات: 56]
ولا ينبغي أن تستهويه أغراض جانبية صغيرة عن الهدف الكبير الذي خلق من أجله، هذا موضوع الخطبة السابقة.
الدروس المستفادة من الهجرة النبوية :
والدرس الثاني الذي نتعلمه من الهجرة أن النبي عليه الصلاة والسلام هو مشرع بأقواله، مشرع بإقراره، مشرع بأفعاله، مشرع بصفاته، فالهجرة من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، فمن خلال الخطة المحكمة التي رسمها سيد الخلق يتأكد لنا- وهذا درس بليغ نحتاجه اليوم- أن التأييد الإلهي لا يعني التفريق قيد أنملة في استجماع أسبابه، لو فرضنا أننا مؤمنون موحدون، الإيمان الذي أراده الله، الإيمان الذي حملنا على طاعة الله، لا بد من أن نأخذ بالأسباب وهذا أدب مع خالق الأسباب، وهذا أدب مع مسبب الأسباب، فلو افترضنا أننا وصلنا إلى الإيمان الذي يريده الله عز وجل، الإيمان الذي أساسه التوحيد، الإيمان الذي أساسه الالتزام، الإيمان الذي أساسه العمل، إذا واجهنا مشكلة ما لا بد من أن نأخذ بأسباب حلها، بأسباب مواجهتها، بأسباب النصر في معركة ما، فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الخطة المحكمة التي وضعها لهجرته سيدنا عمر هاجر متحدياً كفار قريش، فقال: من أراد أن تثكله أمه فليلحق بي إلى هذا الوادي، سيدنا عمر رضوان الله عليه من الأصحاب الكبار، لكنه ليس مشرعاً، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو المشرع، لو أنه هاجر كما هاجر عمر لعدّ اقتحام الأخطار فرضاً، ولعدّ أخذ الحيطة حراماً، لهلكت أمته من بعده، عمر بن الخطاب على علو مقامه يعبر عن ذاته، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في نمط هجرته يعبر عن التشريع الإلهي، لقد وضع النبي عليه الصلاة والسلام خطة محكمة لهجرته، كتم تحركه تضليلاً للمطاردين، اتجه على عكس مراده، اتجه إلى جهة بعيدة عن جهة المدينة، تضليلاً للمطاردين، استأجر دليلاً ذا كفاءة عالية ورجح فيه الخبرة على الولاء، وهذا درس لنا.
شيء آخر: اختار غار ثور الذي يقع جنوب مكة، لإبعاد مظنة الوصول إليه، حدد لكل شخص مهمة أناطها به، من واحد لتقصي الأخبار، وآخر لمحو الآثار، وثالث لإيصال الزاد، وكلف سيدنا علي كرم الله وجهه أن يجلس في مكانه وعلى سريره، وأن يرتدي برده ويسجى على سريره تمويهاً على المحاصرين، هل بعد هذه الخطة من خطة؟ هكذا المسلم، هكذا المؤمن، المؤمن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
الإيمان أيها الأخوة طريق بين واديين سحيقين، الوادي الذي عن يمين الطريق وادي الشرك، والطريق الذي عن يسار الطريق وادي المعصية، فمن أخذ بالأسباب واعتمد عليها، ونسي الله عز وجل، من أخذ بالأسباب وألهها وظن أنه في حرز حريز، فقد وقع في الشرك، من لم يأخذ بها فقد وقع في المعصية، الموقف الكامل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، النبي عليه الصلاة والسلام أعدّ لكل أمر عدته، لم يدع مكاناً للحظوظ العمياء، توكل على الله وقد أخذ بالأسباب، وفي أحاديث أخرى قال يا رسول الله -صاحب الناقة- :
(( يَا رَسولَ الله: أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكّلُ ؟ قَالَ: اعقِلْهَا وَتَوَكَلْ))
[ الترمذي عن أنس رضي الله عنه ]
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ ))
[ أبو داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه ]
أن تقعد وأن تستسلم لمصيرك المشؤوم، وأن تقول كما يقول المسلمون اليوم: انتهينا، لا قبل لنا بهذه القوة الطاغية، وكأن الله غير موجود، أن تأخذ بالأسباب.
((إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ))
[أبو داود عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه ]
أن تتحرك، أن تبحث عن سبب الخلاص، أن تسأل، أن تستفهم، أن تعترض، لا بد من أن تتحرك.
الإسلام التزام و عمل و انضباط :
أيها الأخوة: بالمناسبة الإسلام ليس فهماً لأفكار، وليس إعجاباً سلبياً بنظم، وليس انبهاراً بفلسفات، الإسلام حركة، والذي يؤكد ذلك:
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
[ سورة الأنفال: 72 ]
إن لم تتخذ موقفاً عملياً، إن لم تتحرك، حقائق الإيمان ما إن تستقر في نفس المؤمن حتى تعبر عن ذاتها بحركة، بحركة نحو الخلق، بحركة أساسها الانضباط أولاً والعطاء ثانياً، أما ألا تنضبط وألا تعطي وأنت معجب بعقيدة المسلمين، معجب بالتاريخ الإسلامي، معجب بالفكر الإسلامي، معجب بهذا النظام الدقيق، ليس الإسلام إعجاباً سلبياً، ليس الإسلام سكونياً، ليس الإسلام ثقافة، ليس الإسلام إسلام مجالس راقية، الإسلام التزام، والإسلام عمل، والإسلام انضباط، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه في الحديث الصحيح وسع مفهوم الهجرة، فالمهاجر عبادة في الهرج أي في زمن الفتن، في زمن القتل، في زمن العدوان:
(( العبادة في الهرج كهجرة إلي ))
[ مسلم عن معقل بن يسار ]
والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، هذا مفهوم واسع جداً وأنت في بلدك، وأنت مستقر في وطنك، لكنك حينما تهجر ما نهى الله عنه فأنت مهاجر بشكل أو بآخر.
الفرق بين التوكل و التواكل :
أيها الأخوة الكرام:
((إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ ))
[ أبو داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه ]
أن تستلم لمشكلة، أن تضعف أمامها أنك تظن أنك لا حيلة تملك:
((إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ ))
[ أبو داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه ]
بالتدبير:
((فإذا غلبك أمر فقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل ))
[ أبو داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه ]
متى تقول: حسبي الله ونعم الوكيل؟ إذا انقطعت الأسباب، لا تملك شيئاً عليك بالدعاء، كحال المسلمين اليوم، إذا انقطعت الأسباب من أيديهم فعليهم بطاعة الله أولاً، وعليهم بالتوبة النصوح ثانياً، وعليهم بتقديم شيء للمسلمين ثالثاً، وعليهم بالدعاء.
أيها الأخوة الكرام: فرق كبير بين التوكل والتواكل، لقد فهم الصحابة الكرام التوكل على أنه من أعمال القلب.
أيها الأخوة: ما قولكم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الهجرة أهدر دمه، ووضع مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، ولحقه سراقة لينال مئة ناقة، فقال له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ دققوا في هذا القول، النبي عليه الصلاة والسلام مهدور دمه، ملاحق، مئة ناقة لمن يقتله، أو لمن يأتي به أسيراً، فيقول: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ أي أن النبي عليه الصلاة والسلام واثق أن الله سيحفظه حتى يصل إلى المدينة المنورة، وواثق أنه سيؤسس كياناً إسلامياً، وواثق أنه سيفتح البلاد، وسيصل إلى أكبر دولتين عظيمتين في عصره، وسيأخذ كنوزها غنيمة، وسيلبس سراقة الذي يتبعه سواري كسرى، هذه ثقة النبي، أما المسلمون اليوم فعلى تهديدات جوفاء تنهار معنوياتهم، على كلام باطل تقعد هممهم، ويظنون أن الله ليس في الأرض، مع أن الله يقول:
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
[ سورة الزخرف: 84 ]
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
[ سورة هود: 123 ]
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
[ سورة آل عمران: 173]
ثم يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
[ سورة آل عمران: 175]
فالتوكل من أعمال القلب، هكذا فهمه الصحابة الكرام، لكن المسلمين في عصور التأخر فهموا التوكل أن مكانه الجوارح فلم يفعلوا شيئاً، فانتظروا قدرهم فيما يقولون ومصيرهم المشؤوم وقالوا: لا طاقة لنا بمواجهة هذا العدوان.
الأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء والتوكل على الله وكأنها ليست بشيء :
أيها الأخوة الكرام: ملخص هذا الدرس الثاني أن حقيقة التوكل أن تلقي حبة في الأرض ثم تتوكل على الله. رأى سيدنا عمر ناقة، وإلى جانبها صاحبها، وقد أصابها الجرب، فقال: يا هذا ماذا تفعل من أجل هذا الجرب الذي في ناقتك؟ قال: أدع الله أن يشفيها، فقال: هلا جعلت مع الدعاء قطراناً؟ هلا أخذت بالأسباب. نظر إلى جماعة تسأل الناس في الحج قال: من أنتم ؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.
أمسك النبي عليه الصلاة والسلام بيد عبد الله بن مسعود وكانت خشنة من العمل رفعها أمام أصحابه، وقال: إن هذه اليد يحبها الله ورسوله.
رأى شاباً يصلي وقت العمل قال: يا هذا من يطعمك؟ قال أخي، قال: أخوك أعبد منك:
((إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ فإذا غلبك أمر فقل: "حسبي اللّه ونعم الوكيل ))
[ أبو داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه ]
هذا هو الدرس الثاني أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أيها الأخوة: هناك ملمح في السيرة رائع وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بأدق الأسباب، وغطى كل الاحتمالات، وأعدّ خطة محكمة ما بعدها إحكام، ومع ذلك وصلوا إلى غار ثور، الآن دققوا لو أنه أخذ بالأسباب واعتمد عليها لانهارت نفسه، لكنه أخذ بالأسباب تعبداً لله عز وجل، وهو يعتمد على الله، لذلك لما رأى الصديق رضي الله عنه هؤلاء المطاردين وقد وصلوا إلى الغار قال: يا رسول الله لو نظر أحد إلى موطئ قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
وفي بعض الروايات أنه قال له: لقد رأونا، قال: يا أبا بكر: ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
[ سورة الأعراف : 198]
الدقة البالغة في القصة أن النبي عليه الصلاة والسلام لأنه أخذ بالأسباب تعبداً لله عز وجل هو مطمئن، فلما وصلوا إلى غار ثور بقي رابط الجأش، أنت حينما تأخذ بالأسباب مشمول بالعناية الإلهية، لو لم تكفِ لرممها الله عز وجل، لو لم تكفِ لحفظك الله عز وجل، العبرة أن تأخذ بالأسباب، أن تحترم نظم الكون، مثلاً لا يمكن أن تسأل الله الصحة، وأنت لا تأخذ بأسبابها، لا يمكن أن تسأل الله الشفاء من دون أن تفعل شيئاً، هذا سوء أدب مع الله عز وجل، لا يمكن أن تسأل الله الرزق إن لم تأخذ بأسبابه، أما هذا الذي فهم الدين قعوداً ودعاء أجوف ما فهم من الدين شيئاً، لذلك الطرف الآخر أيها الأخوة أخذوا بالأسباب إلى درجة مذهلة و وصلوا إلى أهدافهم، وملكوا ناصية الأرض، وفرضوا إرادتهم وعولمتهم وثقافتهم على المسلمين، هذه مشكلة، نحن أولى أن نأخذ بالأسباب منهم لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾
[ سورة الأنفال: 60 ]
قصة تشف عن حقيقة الهجرة :
أيها الأخوة الكرام: هذا هو الدرس الثاني ولكن أضع بين أيديكم قصة لأحد أصحاب رسول الله تشف عن حقيقة الهجرة: يقول عقبة بن عامر الجهني أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا في الفلوات أرعى غنيمات لي، فما إن تناهى إليّ خبر قدومه حتى تركتها ومضيت إليه لا ألوي على شيء، فلما لقيته قلت له: يا رسول الله أتبايعني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فمن أنت؟ قلت: أنا عقبة بن عامر الجهني، قال: يا عقبة أيهما أحب إليك أن تبايعني بيعة أعرابية أم بيعة هجرة؟ قلت: بل بيعة هجرة، وكنا اثني عشرة رجلاً ممن أسلموا نقيم بعيداً عن المدينة، لنرعى أغنامنا في بواديها، فقال بعضنا لبعض: لا خير فينا والله إن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد يوم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا مما ينزل عليه من وحي السماء.
الآن معظم الناس يقول لك: أنا مشغول، يرى أن وقته أثمن من أن يحضر درس علم، أو مجلس خير، أو لقاء يتعلم فيه عن الله شيئاً، يرى أن عمله أثمن من أي شيء آخر، هذه قصة بليغة أضعها لكل من إذا طلبت منه أن يحضر درس علم يقول لك: ليس عندي وقت.
فقالوا: لا خير فينا إذا نحن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد يوم ليفقهنا في ديننا، وليسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، فليمض كل واحد منا إلى يثرب، وليترك غنمه لنا فنرعاها له، فقلت: اذهبوا أنتم لرسول الله واحداً بعد آخر، وليترك لي الذاهب غنمه لأنني كنت شديد الإشفاق على غنيماتي من أن أتركها لأحد، ثم طفق أصحابي يغدو الواحد منهم بعد الآخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترك لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء أخذت منه ما سمع، وتلقيت عنه ما فقه، لكن ما لبست أن رجعت إلى نفسي وقلت لها: ويحك يا نفس أمن أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني تفوتين عليك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه مشافهة من غير واسطة؟ ثم تخليت عن غنيماتي - أي أخذ قرارًا صعبًا جداً - ثم تخليت عن غنيماتي، ومضيت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول كتاب السيرة: ولم يكن عقبة بن عامر الجهني يخطر له على بال حينما اتخذ هذا القرار ؛ قرار صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك غنيماته لم يكن يخطر له على بال حينما اتخذ هذا القرار الحاسم والحازم أنه سيغدو بعد عقد من الزمان عالماً من أكبر علماء الصحابة، وقارئاً من أكبر شيوخ قرائها، وقائداً من أكبر قواد الفتح المرموقين، ووالياً من ولاة الإسلام المعدودين، ولم يكن يخطر له على بال أيضاً وهو يتخلى عن غنيماته ويمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في طليعة الجيش الذي يفتح أم الدنيا وقتها، دمشق، وليتخذ لنفسه داراً بين رياضها النضرة عند باب توما، ولم يكن يخطر له على بال أنه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون بلاد مصر، وأنه سيغدو والياً عليها ويتخذ لنفسه داراً في سفح جبلها المقطم، الناس يجبنون عن أن يضحوا ببعض دنياهم من أجل آخرتهم، الناس متعلقون بدنيا تتفلت من أيديهم في ثانية واحدة، الناس الذي يجمعونه طوال حياتهم يخسرونه في ثانية واحدة، حينما يتوقف قلبه، حينما تضيق شرايينه، حينما تنمو خلاياه، حينما يسمج دمهم، يتجلط، فكل ما يملكه الإنسان، وكل مكتسبات الإنسان، وكل هيمنة الإنسان، وكل مكانة الإنسان يمكن أن تنتهي بثانية واحدة، فهذا الذي ترك غنيماته، ومضى إلى رسول الله، صار أكبر عالم، وأكبر قارئ، وأكبر والٍ، وأكبر فاتح لدمشق ولمصر.
أيها الأخوة الكرام: نستنبط من هذا أن من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن أدق من قرأته في التفاسير عن كلمة مراغماً أي يفتح الله عليه، ويغنيه ويرغم أنف أعدائه، أنت حينما تتخذ قراراً صعباً، حينما تتحول من بلد تحقق فيه مصالحك لكن ينهار فيه دينك، حينما تتحول من بلد تعيش حياة خيالية لكنك لا تضمن دين أولادك من بعدك، والذي قاله بعض العلماء: إن لم تضمن أن يكون ابنُ ابن ابنك مسلماً فلا ينبغي أن تبقى في بلد يعصى الله فيه على قارعة الطريق.
أيها الأخوة الكرام: معاني الهجرة معاني ثمينة جداً، ومعاني غالية جداً، وهي حدث وقع وله أمثاله في حياة المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين أستغفر الله.
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حقائق عن الصلاة :
أيها الأخوة الكرام: إذا ضاقت نفسك يوماً بالحياة فتذكر قول الله عز وجل:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
[ سورة الحديد : 16]
إذا ضاقت نفسك يوماً بالحياة فما عدت تطيق آلامها، وقسوتها، وأخبارها، وكيد الكائدين، وتجبر المتجبرين، وطغيان الطاغين، ووعيد المتوعدين، إذا تملكك الضجر واليأس وأحسست بالحاجة إلى الشكوى فلم تجد من تشكو له، فتذكر أن لك رباً رحيماً يسمع شكواك ويجيب دعواك، تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((أَرِحْنا بِها يا بلالُ ))
[ أبو داود عن سالم بن أبي الجعد ]
أي الصلاة تذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، إذا ألممت بذنب في غفلة من أمرك فأفقت على لدغ ضميرك، وإذا نكست رأسك خجلاً من نفسك وأحسست بالندم بقلق فؤادك تذكر أن لك رباً غفوراً، يقبل التوبة، ويعفو عن الزلة، قد فتح لك باب التوبة، ودعاك إلى لقائه رحمة منه وفضلاً، وتذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((أَرِحْنا بِها يا بلالُ ))
[ أبو داود عن سالم بن أبي الجعد ]
أي الصلاة، هذه بعض معانيها إنها تعلمنا أن الصلاة ليست حركات وسكنات وقراءات، لكنها مدرسة روحية عالية جداً، إن الصلاة باب من أبواب الرحمة، وباب من أبواب الهداية، وباب من أبواب الأمن، كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، هي اطمئنان لقلوب المذنبين، الصلاة تشتمل على أسمى معاني العبودية لله، والاتجاه إلى الله تعالى، والاستعانة به، والتفويض إليه، لها من الفضل والتأثير ما لا يوصف.
أيها الأخوة الكرام: قال تعالى:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾
[ سورة مريم: 59]
ليست الصلاة أن يقف الإنسان بجسده وقلبه هائم بأودية الدنيا، إننا إن فعلنا ذلك لم نقطف من الصلاة ثمارها.
أيها الأخوة الكرام: الصلاة عماد الدين، الصلاة غرة الطاعات، الصلاة سيدة القربات، الصلاة معراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات.
أيها الأخ الكريم: تذكر قول النبي عليه أتم الصلاة والتسليم:
(( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله ))
[ مسلم عن عثمان]
تذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة ))
[مسلم عن ثوبان و أبي الدرداء ]
وتذكر أيها الأخ الكريم قوله صلى الله عليه وسلم:
((من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت اللَّه ليقضي فريضة من فرائض اللَّه كانت خطواته إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة ))
[مسلم عن أبي هريرة]
ما أشدّ حاجة المسلمين إلى أن يعودوا إلى ربهم من خلال الصلاة، من خلال تمتين إيمانهم وتجديده، ومن خلال التزامهم بالأمر والنهي، ومن خلال عملهم الصالح، ومن خلال إحكام اتصالهم بالله عز وجل.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مآلنا، اجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اجعل تدمير أعدائهم في تدبيرهم، اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، أرنا قدرتك في تدميرهم يا أكرم الأكرمين، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.
Source nabulsi.com