[2:5] - البقرة - الوسيط

[2:5] - البقرة - الوسيط

الطنطاوي

﴿أُولئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِم وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾ [ البقرة - 2:5 ]

( أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون ).

المفلحون: من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية، وأصله من الفلح - بسكون اللام - وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث. وأستعمل منه الفلاح في الفوز كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.

والمعنى: أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة، على نور من ربهم، وأولئك هم الفائزون بما طلبوا، الناجون مما منه هربوا، بسبب إيمانهم العميق، وأعمالهم الصالحة.

والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنساني، فقد وصفهم - سبحانه - بأنهم على هدى عظيم، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير، إن من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. كما يدل - أيضاً - على عظم هذا الهدى وصفه بأنه " من ربهم " فهو الذي وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه.

وفي قوله - تعالى -: ( على هُدًى ) إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشيء، وصار في قرار راسخ منه.

وجملة " وأولئك هم المفلحون " بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال، من سعادة في الدنيا والآخرة.

وتعريف الخبر وهو ( المفلحون ) مع إيراد ضمير الفصل " هم " يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو بخل بالمال الذي منحه الله إياه فلم يؤده في وجوهه المشروعة، فإنه لا يكون من المهتدين، ولا من المفلحين الذين سعدوا في دنياهم وآخرتهم.

قال الإمام الرازي: " وفي تكرير " ( أولئك ) تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح - أيضاً - فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين، فإن قيل: فلم جيء بالعاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله: ( أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون ) قلنا: قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الثانية مقررة لما في الأولى، فهي من العطف بمعزل ".

وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة "... فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك، ليبصرك مرتباتهم، ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته... ".

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بما يستحقه، وأثنت على من اهتدوا بهديه، ووصفتهم بالصفات السامية، وبشرتهم بالبشارات الكريمة.

وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره في الهداية والإرشاد، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع في بيان حال الكافرين، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال:

( إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ... )

Report Page