[2:42] - البقرة - الوسيط
الطنطاوي﴿وَلا تَلبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمونَ﴾ [ البقرة - 2:42 ]
وبعد أن نهى القرآن الكريم بني إسرائيل عن الكفر والضلال، عقب ذلك بنهيهم عن أن يعملوا لإِضلال غيرهم، فقال - ( وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).
اللبس - بفتح اللام - الخلط، وفعله: ليس، من باب: ضرب تقول: لبَست عليه الأمر، ألبِسه إذا مزجت بينه بمشكله، وحقه بباطله.
ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس:
إحداهما: طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله تعالى: ( وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل ).
والثانية: طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر، وهي المشار إليها بقوله تعالى: ( وَتَكْتُمُواْ الحق ).
وقد استعمل بنو إسرائيل الطريقتين لصرف الناس عن الإِسلام، قد كان بعضهم يؤول نصوص كتبهم الدالة على صدق النبي - ﷺ - تأويلا فاسداً، يخلصون فيه الحق بالباطل، ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر، وكان بعضهم يلقى حول الحق الظاهر شبهاً، لوقع ضعفاء الإِيمان في حيرة وتردد، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي ﷺ، والتي لا توافق أهواءهم وشهواتهم، فنهاهم الله - تعالى - عن هذه التصرفات الخبيثة.
والمعنى: ولا تخلطوا الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية، وأيدته العقول السليمة، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم، إرضاء لأهوائكم، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، كما تعرفون أبناءكم، بغية انصراف الناس عنه " لأن من جهل شيئا عاداه، فالنهي الأول عن التغيير والخلط، والنهي الثاني عن الكتمان والإِخفاء.
وقوله تعالى ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) جملة حالية، أي وأنتم من ذوي العلم، ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق، أو يلبسه بالباطل، وإذا كان هذا الفعل - وهو لبس الحق بالباطل، أو كتمانه وإظهار الباطل وحده - يعد من كبائر الذنوب، فإن وقعه يكون أقبح، وفساده أكبر، وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم، يميز بين الحق والباطل.
ففي هذه الجملة الكريمة بيان لحال بني إسرائيل، المخاطبين بهذا النهي، وتبكيت لهم، لأنهم لم يفعلوا ما فعله عن جهالة، وإنما عن علم وإصرار على سلوك هذا الطريق المعوج.
قال أبو حيان في البحر: " وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، إذ الجاهل بحال الشيء لا يردي كونه حقاً أو باطلا، وإنما فائدتها بيان أن الإِقدام على الأشياء القبيحة، مع العلم بها، أفحش من الإِقدام عليها مع الجهل.