[2:3] - البقرة - الوسيط

[2:3] - البقرة - الوسيط

الطنطاوي

﴿الَّذينَ يُؤمِنونَ بِالغَيبِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ [ البقرة - 2:3 ]

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة، فقال: ( الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب ) أي: يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب.

والإيمان لغة التصديق والإذعان، وهو إفعال من الأمن. وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

.. الخ، وعدى ( يُؤْمِنُونَ ) بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف.

والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة. ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل.

قال بعض العلماء: وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة، كما هو حال الماديين الذين يقولون: " ما يهلكنا إلا الدهر:

والإيمان بالغيب: يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل.

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة، والرسل الذين أرسلوا من قبل، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد ﷺ.

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول، وسلامة القلوب، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها، وتقشعت عنها غشاواتها، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً، جعلها تسير بنظام محكم، فهذه كواكب تظهر وتغيب، وسماء مرفوعة بغير عمد، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب... ( صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر، وحكيم قدير، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم.

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق ﷺ يقوي ويعظم كلما قوي الإيمان في القلوب، واستولى الصفاء على النفوس، وقد مدح النبي ﷺ المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة، منها ما جاء عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز قال: قلت لابن جمعة: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله ﷺ قال: نعم أحدثك حديثاً. تغدينا مع رسول الله ﷺ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: " يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك.

قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني ".

قال ابن كثير: فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً.

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله ﷺ قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال:

" أولئك قوم آمنوا بالغيب "

تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى -:

( وَيُقِيمُونَ الصلاة ).

الصلاة في اللغة الدعاء، من صلى يصلي إذا دعا، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء، والإقامة في الأصل: الدوام والثبات، من قولك: قام الحق أي: ظهر وثبت.

ومعنى ( وَيُقِيمُونَ الصلاة ): يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها، مع تعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس، وعفافها، وتركها لكل الشرور والآثام، كما قال - تعالى - ( إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر ) وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح.

وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات، ولأنها صلة بين العبد وربه، والإنفاق صلته بالناس، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة.

أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى -:

( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ).

أي: ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين.

والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق. والإنفاق: إخراج المال وإنفاده وصرفه، يقال: نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ. وأنفق ماله أنفده، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق فلان، والنافقاء، والنفق. وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر. ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان.

وإيراد " من " في قوله تعالى - ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ ) للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس.

هذا، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير، لا بد أن تعز كلمتها، وتسلم من كوارث شتى، كالجهل، والفقر، والمرض.

فببذل الماء تسد حاجات البؤساء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء.

قال تعالى: ( مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفاً رابعاً فقال:

Report Page