[2:29] - البقرة - الوسيط

[2:29] - البقرة - الوسيط

الطنطاوي

﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُم ما فِي الأَرضِ جَميعًا ثُمَّ استَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ [ البقرة - 2:29 ]

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى:

( هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ).

أي: أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم، وتستعينوا بها على طاعته.

وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها.

ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال:

( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ).

استوى إلى السماء: أقبل وعمد إليها بإرادته. وتسويتها معناه: تعديل خلقها وتقويمه.

والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله: ( فَسَوَّاهُنَّ )، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع.

فمعنى ( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء ) علا إليها وارتفع، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملامسة والمباشرة.

وجملة ( ثُمَّ استوى ) معطوفة على جملة ( خَلَقَ لَكُمْ )، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض.

وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب. قال - تعالى -:

( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ) وجملة ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به.

وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى:

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ... )

Report Page