[2:233] - البقرة - الطبري

[2:233] - البقرة - الطبري

ابن جرير الطبري

﴿وَالوالِداتُ يُرضِعنَ أَولادَهُنَّ حَولَينِ كامِلَينِ لِمَن أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى المَولودِ لَهُ رِزقُهُنَّ وَكِسوَتُهُنَّ بِالمَعروفِ لا تُكَلَّفُ نَفسٌ إِلّا وُسعَها لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَولودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوارِثِ مِثلُ ذلِكَ فَإِن أَرادا فِصالًا عَن تَراضٍ مِنهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيهِما وَإِن أَرَدتُم أَن تَستَرضِعوا أَولادَكُم فَلا جُناحَ عَلَيكُم إِذا سَلَّمتُم ما آتَيتُم بِالمَعروفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾ [ البقرة - 2:233 ]

والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة

القول في تأويل قوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بن من أزواجهن ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق أو ولدنهم منهم بعد فراقهم إياهن من وطء كان منهم لهن قبل البينونة يرضعن أولادهن، يعني بذلك أنهن أحق برضاعهم من غيرهن وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان المولود له والدا حيا موسرا؛ لأن الله تعالى ذكره قال في سورة النساء القصرى: { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } 65 6 وأخبر تعالى أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها، فكان معلوما بذلك أن قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين } دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الولدان في رضاع المولود بعدها، جعل حدا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن وأما قوله { حولين } فإنه يعني به سنتين، كما: 3907 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } سنتين * حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله وأصل الحول من قول القائل: حال هذا الشيء: إذا انتقل، ومنه قيل: تحول فلان من مكان كذا: إذا انتقل عنه فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر كاملين في قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } بعد قوله { يرضعن حولين } وفي ذكر الحولين مستغنى عن ذكر الكاملين؟ إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين } ما يراد به، فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟ قيل: إن العرب قد تقول: أقام فلان بمكان كذا حولين أو يومين أو شهرين، وإنما أقام به يوما وبعض آخر أو شهرا وبعض آخر، أو حولا وبعض آخر فقيل حولين كاملين ليعرف سامع ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، لا حول وبعض آخر، وذلك كما قال الله تعالى ذكره: { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } 2 203 ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف، فكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، وأنه ليس منه شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة، فتقول: اليوم يومان منذ لم أره، وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر، وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة على العام والزمان واليوم، فتقول زرته عام كذا، وقتل فلان فلانا زمان صفين، وإنما تفعل ذلك لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه، فجاز أن ينطق بالحولين واليومين على ما وصفت قبل، لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك، وفي ذلك الوقت فكذلك قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين، فكان الكلام لو أطلق في ذلك بغير تضمين الحولين بالكمال، وقيل: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين } محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر نفي اللبس عن سامعيه بقوله: { كاملين } أن يكون مرادا به حول وبعض آخر، وأبين بقوله: { كاملين } عن وقت تمام حد الرضاع، وأنه تمام الحولين بانقضائهما دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية من مبلغ غاية رضاع المولودين، أهو حد لكل مولود، أو هو حد لبعض دون بعض؟ فقال بعضهم: هو حد لبعض دون بعض ذكر من قال ذلك: 3908 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود عن عكرمة عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا 3909 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة بمثله، ولم يرفعه إلى ابن عباس 3910 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري عن أبي عبيد قال: رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رفعت لا أراها إلا قد جاءت بشر أو نحو هذا ولدت لستة أشهر، فقال ابن عباس: إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر قال: وتلا ابن عباس: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } 46 15، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر فخلى عثمان سبيلها وقال آخرون: بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه، فأراد أحدهما البلوغ إليه، والآخر التقصير عنه ذكر من قال ذلك: 3911 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } فجعل الله سبحانه الرضاع حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده 3912 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء 3913 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، وحدثني علي بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء جميعا، عن الثوري في قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } والتمام: الحولان، قال: فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك، وإذا قالت المرأة أنا أفطمه قبل الحولين وقال الأب لا فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب حتى يجتمعا، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين، وذلك قوله: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور }. وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } على أن لا رضاع بعد الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين ذكر من قال ذلك: 3914 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، قال: ثنا الزهري، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: إن الله تعالى ذكره يقول: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا * حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: لا رضاع بعد الحولين 3915 - حدثنا أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن الشيباني، عن أبي الضحى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال: ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع 3916 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة: أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين، فقال لا ترضعيه 3917 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الشيباني، قال: سمعت الشعبي، يقول: ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا 3918 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم أنه كان يحدث عن عبد الله أنه قال: لا رضاع بعد فصال أو بعد حولين 3919 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن بن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ليس يحرم من الرضاع بعد التمام، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم 3920 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار، أن ابن عباس قال: لا رضاع بعد فصال السنتين * حدثنا هلال بن العلاء الرقي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عبيد الله، عن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، قال: سمعت ابن عباس يقول: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } قال: لا رضاع إلا في هذين الحولين وقال آخرون: بل كان قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } دلالة من الله تعالى ذكره عباده على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود ذكر من قال ذلك: 3921 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك فقال تعالى ذكره: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } 3922 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } يعني المطلقات يرضعن أولادهن حولين كاملين، ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك، فقال: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } ذكر من قال: إن الوالدات اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع البائنات من أزواجهن على ما وصفنا قبل: 3923 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قال: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } إلى: { إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف } أما الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها 3924 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر عن الضحاك في قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا * حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه وأولى الأقوال بالصواب في قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } القول الذي رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ووافقه على القول به عطاء والثوري، والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر، وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع المولود إذا اختلف والده، وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا، وأنه معني به كل مولود لستة أشهر كان ولاده، أو لسبعة أو لتسعة فأما قولنا: إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه؛ فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن للحد معنى معقول وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل لما كان وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع، وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين، وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة فيه، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين، وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما، كان ما وراءه غير محرم وإنما قلنا هو دلالة على أنه معني به كل مولود لأي وقت كان ولاده، لستة أشهر، أو سبعة، أو تسعة، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه، أو على لسان رسول الله ﷺ في كتابنا " كتاب البيان عن أصول الأحكام " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره قد بين ذلك بقوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره، فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع وما زيد في مدة الحمل نقص من مدة الرضاع، وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا، كما حده الله تعالى ذكره؟ قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل على هذه المقالة إن بلغت حولين كاملين، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع سنين أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته أو يزعم قائل هذه المقالة أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر، فيخرج من قول جميع الحجة، ويكابر الموجود والمشاهد، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك، فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة وضح لذوي الفهم فساد قوله فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله إن كان الأمر على ما وصفت: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } 46 15 وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره نظير ما دون حده في الحكم، وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟ قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } حدا لتعبد عباده بأن لا يجاوزه كما جعل قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } حدا لرضاع المولود التام الرضاع، وتعبد العباد بحمل والديه عليه عند اختلافهما فيه، وإرادة أحدهما الضرار به وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه، فأما ما لم يكن لهم إلى فعله، ولا إلى تركه سبيل فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه، ولا التعبد به فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته، ولا إلى إطالتها فيضعنه متى شئن ويتركن وضعه إذا شئن، كان معلوما أن قوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } 46 15 إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلفه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا، لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا لما وصفنا، وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه: { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } 46 15 فإن ظن ذو غباء، أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم، وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا؛ فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه } على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله وكفرانه نعم ربه عليه، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد؛ لأن من يولد من الناس لتسعة أشهر أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين، كما أن من يولد لتسعة أشهر أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل المدينة والعراق والشام: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } بالياء في " يتم " ونصب " الرضاعة " بمعنى: لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده، وقرأه بعض أهل الحجاز " لمن أراد أن تتم الرضاعة " بالتاء في " تتم "، ورفع " الرضاعة " بصفتها والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ بالياء في " يتم " ونصب " الرضاعة "، لأن الله تعالى ذكره قال { والوالدات يرضعن أولادهن } فكذلك هن يتممها إذا أردن هن والمولود له إتمامها وأنها القراءة التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة دون القراءة الأخرى وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر الراء التي فيها، وإن تكن صحيحة فهي نظيرة الوكالة والوكالة والدلالة والدلالة، ومهرت الشيء مهارة ومهارة، فيجوز حينئذ الرضاع والرضاع، كما قيل الحصاد والحصاد وأما القراءة فبالفتح لا غير.وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف

القول في تأويل قوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } يعني تعالى ذكره بقوله: { وعلى المولود له } وعلى آباء الصبيان للمراضع رزقهن، يعني رزق والدتهن ويعني بالرزق ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم وكسوتهن، ويعني بالكسوة الملبس ويعني بقوله: { بالمعروف } بما يجب لمثلها على مثله إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك، فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره: { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } 65 7 وكما: 3925 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا تكلف نفسا إلا وسعها 3926 - حدثني علي بن سهل الرملي، قال: ثنا زيد، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } والتمام: الحولان { وعلى المولود له } على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف 3927 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } قال: على الأبلا تكلف نفس إلا وسعها

القول في تأويل قوله تعالى: { لا تكلف نفس إلا وسعها } يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } 65 7 كما 3928 - حدثنا ابن حميد، قال ثنا مهران، وحدثني علي قال: ثنا زيد جميعا، عن سفيان: { لا تكلف نفس إلا وسعها } إلا ما أطاقت والوسع: الفعل من قول القائل: وسعني هذا الأمر، فهو يسعني سعة، ويقال: هذا الذي أعطيتك وسعي، أي ما يتسع لي أن أعطيك فلا يضيق علي إعطاؤكه وأعطيتك من جهدي إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه فمعنى قوله { لا تكلف نفس إلا وسعها } هو ما وصفت من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها، ولا يجهدها، لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه: لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات، لأن ذلك لو كان كما زعمت لكان قوله تعالى ذكره: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } 17 48 إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه واجبا أن يكون القوم في حال واحدة قد أعطوا الاستطاعة على ما منعوها عليه وذلك من قائله إن قاله إحالة في كلامه، ودعوى باطل لا يخيل بطوله وإذا كان بينا فساد هذا القول، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل.لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده

القول في تأويل قوله تعالى: { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ عامة قراء أهل الحجاز والكوفة والشام: { لا تضار والدة بولدها } بفتح الراء بتأويل لا تضارر على وجه النهي وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات وهو الفتح، ولو حرك إلى الكسر كان جائزا إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه، وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة: " لا تضار والدة بولدها " رفع ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي، ولكنها تكون بالخبر عطفا بقوله { لا تضار } على قوله: { لا تكلف نفس إلا وسعها } وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع لا تضار والدة بولدها هكذا في الحكم، أنه لا تضار والدة بولدها، أي ما ينبغي أن تضار، فلما حذفت " ينبغي " وصار " تضار " في وضعه صار على لفظه، واستشهد لذلك بقول الشاعر: على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته أن لا يجور ويقصد فزعم أنه رفع يقصد بمعنى ينبغي والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال؛ وذلك أنه روي عنهم سماعا فتصنع ماذا، إذا أرادوا أن يقولوا: فتريد أن تصنع ماذا، فينصبونه بنية " أن "؛ وإذا لم ينووا " أن " ولم يريدوها، قالوا: فتريد ماذا، فيرفعون تريد، لأن لا جالب ل " أن " قبله، كما كان له جالب قبل تصنع، فلو كان معنى قوله لا تضار إذا قرئ رفعا بمعنى: ينبغي أن لا تضار، أما ما ينبغي أن تضار ثم حذف ينبغي وأن، وأقيم تضار مقام ينبغي لكان الواجب أن يقرأ إذا قرئ بذلك المعنى نصبا لا رفعا، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني بالمراد، كما فعل بقوله فتصنع ماذا، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على لا تكلف ليست تكلف نفس إلا وسعها، وليست تضار والدة بولدها، يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين، فلو كان ذلك خبرا لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك وبما قلنا في ذلك من أن ذلك بمعنى النهي تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 3929 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { لا تضار والدة بولدها } لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها * حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله 3930 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها، ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { لا تضار والدة بولدها } ترمي به إلى أبيه ضرارا؛ { ولا مولود له بولده } يقول: ولا الولد فينتزعه منها ضرارا إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها، فهي أحق به إذا رضيت بذلك 3931 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن: { لا تضار والدة بولدها } قال: ذلك إذا طلقها، فليس له أن يضارها، فينتزع الولد منها إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها، وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق إذا كان إنسانا مسكينا فتقذف إليه ولده 3932 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { لا تضار والدة بولدها } لا تضار أم بولدها، ولا أب بولده يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا أو إلى عصبته إذا كان الأب ميتا، ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه 3933 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { لا تضار والدة بولدها } يقول لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به، ولا تضار والدة بولدها فتطرح الأم إليه ولده تقول لا أليه ساعة تضعه، ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا 3934 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني عقيل، عن ابن شهاب، وسئل عن قول الله تعالى ذكره: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } إلى { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } قال ابن شهاب: والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر، وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها 3935 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، وحدثني علي، قال ثنا زيد جميعا، عن سفيان في قوله: { لا تضار والدة بولدها } لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها تضاره بذلك، { ولا مولود له بولده } ولا ينزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك 3936 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } قال: لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه ولا يجد ما يسترضعه به 3937 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني ابن جريج، عن عطاء في قوله: { لا تضار والدة بولدها } قال: لا تدعنه ورضاعه من شنآنها مضارة لأبيه، ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها وقال بعضهم: الوالدة التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي ذكر من قال ذلك: 3938 - حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هارون النحوي، قال: ثنا الزبير بن الحارث عن عكرمة في قوله: { لا تضار والدة بولدها } قال: هي الظئر فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها، ولا والدة مولود والده بمولودها منه، ثم ترك ذكر الفاعل في يضار، فقيل: لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده، كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه: لا يكرم عمرو ولا يجلس إلى أخيه، ثم ترك التضعيف فقيل: لا يضار، فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة لو أظهر التضعيف بحركة الراء الأولى وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع لأنه أحد الحركات وليس للذي قال من ذلك معنى، لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك لو كان معنى الكلام: لا تضارون والدة بولدها، وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة على أن معنى الكلام لو كان كذلك لكان الكسر في تضار أفصح من الفتح، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح، كما أن مد بالثوب أفصح من مد به وفي إجماع القراء على قراءة: { لا تضار } بالفتح دون الكسر دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك فإن قال قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تضارر والدة، وأن الوالدة مرفوعة بفعلها، وأن الراء الأولى حظها الكسر؛ فقد أغفل تأويل الكلام، وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل واحد من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما، لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود، وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي، والصبي في حال ما هو رضيع غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد، فلو كان ذلك معناه، لكل التنزيل: لا تضر والدة بولدها وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في " تضار " جائز، والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع، لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى " لا تضارر " الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله، إلى معنى " لا تضارر " الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله فإذا كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحق على إمام المسلمين إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة، أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها ما دام محتاجا الصبي إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير والدته، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده، وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده، أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته؛ لأن الله تعالى ذكره حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، فالإضرار به أحرى أن يكون محرما مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه.وعلى الوارث مثل ذلك

Report Page