[2:226] - البقرة - التنوير

[2:226] - البقرة - التنوير

ابن عاشور

﴿لِلَّذينَ يُؤلونَ مِن نِسائِهِم تَرَبُّصُ أَربَعَةِ أَشهُرٍ فَإِن فاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [ البقرة - 2:226 ]

استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام. كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: { وعاشروهن بالمعروف } [ النساء: 19 ] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى. وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.

وعن سعيد بن المسيب: «كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة» أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم. قال: «ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى» فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله: { ولا تجعلوا الله عرضة } [ البقرة: 224 ].

والإيلاء: الحلف، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء، وتألى يتألى تألياً، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم الألوَّة والألية، كلاهما بالتشديد، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة.

وقال الراغب: «الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى: { لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران: 118 ] { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } [ النور: 22 ] وصار في الشرع الحلف المخصوص» فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو، وتشهد به موارد الاستعمال، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً، ويذكرونه كثيراً، قال المتلمس:

آلَيْتُ حبَّ العِرَاققِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه... وقال تعالى: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } [ النور: 22 ] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا: { للذين يؤلون من نسائهم } فَعدَّاه بمِنْ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين. وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص.

ومجيء اللام في { للذين يؤلون } لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة. وعدى فعل الإيلاء بمِن، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد، كأنه قال: للذين يؤلون متباعدين من نسائهم، فمِنْ للابتداء المجازي.

والنساء: الزوجات كما تقدم في قوله: { فاعتزلوا النساء في المحيض }

[ البقرة: 222 ] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان، مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء: 23 ] وقد تقدم في قوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة } [ البقرة: 173 ].

والتربص: انتظار حصول شيء لغير المنتظِر، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة: 228 ]، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى «في» كقوله تعالى: { بل مكر الليل } [ سبأ: 33 ].

وتقديم { للذين يؤلون } على المبتدأ المسند إليه، وهو تربص، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج، وتشويق لذِكْر المسند إليه. و{ فاءوا } رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء، وحذف متعلق { فاءوا } بالظهور المقصود. والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود.

وقوله: { فإن الله غفور رحيم } دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم. وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن، قصدُ الإضرار بالمرأة. وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعاً، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً. وقد آلى النبي ﷺ من نسائه شَهْراً، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك. والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.

وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ، إن لم يقيدوها بالحلف.

Report Page