[2:190] - البقرة - الوسيط

[2:190] - البقرة - الوسيط

الطنطاوي

﴿وَقاتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلونَكُم وَلا تَعتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ﴾ [ البقرة - 2:190 ]

قال ابن كثير: قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أسن عن أبي العالية في قوله - تعالى - ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ) قال: هذا أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قالته وكيف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة.

ويرى بعض العلماء أن هذه الآيات قد وردت في الأذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغياً وعدواناً. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرماً في الجاهلية. فقد أخرج الواحدي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلة في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله ﷺ صده المشركون عن البيت الحرام - ثم صالحوه فرضى على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفى لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام فأنزل الله - تعالى الآيات.

والقتال والمقاتلة: محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، والتقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر.

قال أبو حيان: وقوله: ( فِي سَبِيلِ الله ) السبيل هو الطريق. واستعير لدين الله وشرائعه لأن المتبع لذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية، فشبه بالطريق الموصل الإِنسان إلى ما يقصده، وهذا من استعارة الأجرام للمعاني ويتعلق ( فِي سَبِيلِ الله ) بقوله: ( وَقَاتِلُواْ ) وهو ظرف مجازي، لأنه لما وقع القتال بسبب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه، وعلى حذف مضاف والتقدير في نصرة دين الله.

والمراد بالقتال في سبيل الله: الجهاد من أجل إعلاء كلمته حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء لا يسومهم أعداؤه ضيماً، وأحراراً في الدعوة إليه وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب.

أي: قاتلوا أيها المؤمنون لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه أعداءكم الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم ومناجزتكم وتحققتم منهم سوء النية، وفساد الطوية.

فالآية الكريمة تهييج للمؤمنين وإغراء لهم على قتال أعدائهم بدون تردد أو تهيب، وإرشاد لهم إلى أن يجعلوا جهادهم من أجل نصرة الحق، لا من أجل المطامع أو الشهوات.

فقد روى الشيخان أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي موسى - رضي الله عنه - " أن أعرابياً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه - أي: ليتحدث الناس بشجاعته وليظهر بينهم - أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ".

والأحاديث في الدعوة إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته كثيرة متعددة. وقوله ( وَلاَ تعتدوا ) نهى عن الاعتداء بشتى صورة ويدخل فيه دخولا أولياء الاعتداء في القتال.

والاعتداء: مجازة الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه.

أي: قاتلوا في سبيل الله من يناصبكم القتال من المخالفين، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم، كنسائهم، وصبيانهم ورهبانهم، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم، ويلحق بهؤلاء المريض والمقعد والأعمى والمجنون. وقد وردت في النهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم، فهؤلاء يتجنب قتالهم إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأى أو عمل في الحرب، يؤازر به المحارين لينتصروا على المجاهدين.

قال ابن كثير: ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله ﷺ كان يقول: " أغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وُجِدَتْ امرأة في بعض المغازي مقتولة فأنكر رسول الله ﷺ قتل النساء والصبيان.

وقوله: ( إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ) كالتعليل لما قبله في النهي عن مجاوزة ما حده الله - تعالى - في قتال المخالفين.

ومحبة الله لعباده: صفة من صفاته - تعالى - من أثرها الرعاية والإِنعام. وإذا نفى الله - تعالى - محبته لطائفة من الناس فهو كناية عن بغضه لهم، واستحقاقهم لعقوبته.

Report Page