[2:175] - البقرة - الطبري
ابن جرير الطبري﴿أُولئِكَ الَّذينَ اشتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى وَالعَذابَ بِالمَغفِرَةِ فَما أَصبَرَهُم عَلَى النّارِ﴾ [ البقرة - 2:175 ]
القول في تأويل قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى "، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر " العذاب " و" المغفرة "، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (35) وكذلك بينا وجه " اشتروا الضلالة بالهدى " باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. (36)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك:
2500- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " فما أصْبَرهم على النار "، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
2501- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فما أصْبَرهم على النار "، يقول: فما أجرأهم عليها.
2502- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله: " فما أصْبرهم على النار " قال، والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار.
2503- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه: " فما أصبرهم على النار "، ما أجرأهم.
2504- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " فما أصبرهم على النار "، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
2505- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " فما أصْبرهم على النار " قال، ما أعملهم بالباطل.
2506- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل " ما " التي في قوله: " فما أصبرهم على النار ". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟ (37)
* ذكر من قال ذلك:
2507- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " فما أصبرَهم على النار "، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟
2508- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء: " فما أصبرهم على النار " قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟
2509- حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش: " فما أصبرهم على النار " قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال: " فما أصبرُهم "، رفعًا. قال: يقال للرجل: " ما أصبرك "، ما الذي فعل بك هذا؟
2510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " فما أصبرهم على النار " قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
* * *
وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك:
2511- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فما أصبرهم على النار " قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. (38)
* * *
فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ، فما أشد جراءتهم -بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [سورة عبس: 17]، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار -والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب: " ما أصبرَ فلانًا على الله "، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! (39) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنـزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد ﷺ ونبوَّته، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. (40) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.
وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم على عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر " النار " من ذكر " عذابها "، كما يقال: " ما أشبه سخاءك بحاتم "، بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم،" وما أشبه شَجاعتك بعنترة ". (41)
---------------
الهوامش:
(35) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية.
(36) انظر ما سلف 1: 311-315.
(37) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 64.
(38) انظر ما سلف رقم: 2501، 2502.
(39) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 103.
(40) قدم، وتقدم، وأقدم، واستقدم، كلها بمعنى واحد، إذا كان جرئيًا فاقتحم.
(41) انظر معاني القرآن للفراء 1: 103، أيضًا.