[17:89] - الإسراء - التنوير
ابن عاشور﴿وَلَقَد صَرَّفنا لِلنّاسِ في هذَا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكثَرُ النّاسِ إِلّا كُفورًا﴾ [ الإسراء - 17:89 ]
لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام، مدمجاً في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثَل. وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال. وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى: { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في سورة [ البقرة: 26 ]. ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه.
فجملة { ولقد صرفنا } معطوفة على جملة { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز.
وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله، فمورد التأكيد هو فعل { صرفنا } الدال على أنه من عند الله.
والتصريف تقدم آنفاً عند قوله تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } [ الإسراء: 41 ].
وزيد في هذه الآية قيد { للناس } دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز، فكان الناس مقصودين به قصداً أصلياً مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم.
ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل { صرفنا } على الآخر: أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقاً لتحديهم والحجة عليهم، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تُقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارَفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالاً. ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. والأظهر كون التعريف في { الناس } للعموم كما يقتضيه قوله: { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً }.
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله: { من كل مثل } بخلاف الآية السابقة، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزاً لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيِّن من جهتين، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة [ البقرة: 23 ] { فأتوا بسورة من مثله } فإن ( من ) للتبعيض وتنوين ( مثل ) للتعظيم والتشريف، أي من كل مثل شريف. والمراد: شرفه في المقصود من التمثيل.
و ( من ) في قوله: { من كل مثل }. للتبعيض، و( كل ) تفيد العموم، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل.
وحذف مفعول { أبى } للقرينة، أي أبى العمل به.
وفي قوله: { إلا كفوراً } تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي تأكيد في صورة النقص، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة، ثم يأتي المستثنى مؤكداً لمعنى المستثنى منه، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة. وهو استثناء مُفرغ لما في فعل { أبى } من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله: { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء: 93 ].
والكُفور بضم الكاف المجحود، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا.