[1:7] - الفاتحة - القرطبي

[1:7] - الفاتحة - القرطبي

القرطبي

﴿صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾ [ الفاتحة - 1:7 ]

صراط الذين أنعمت عليهم

صراط بدل من الأول بدل الشيء من الشيء؛ كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدم هدايتنا، فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جل وعز والفهم عنه؛ قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن الذين في الرفع والنصب والجر، وهذيل تقول: ( اللذون ) في الرفع، ومن العرب من يقول: ( اللذو )، ومنهم من يقول ( الذي ) وسيأتي.

وفي ( عليهم ) عشر لغات؛ قرئ بعامتها: " عليهم " بضم الهاء وإسكان الميم. " وعليهم " بكسر الهاء وإسكان الميم. و" عليهمي " بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و" عليهمو " بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و" عليهمو " بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم و" عليهم " بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء: " عليهمي " بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم؛ حكاها الحسن البصري عن العرب. و" عليهم " بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و" عليهم " بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و" عليهم " بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب؛ قاله ابن الأنباري.

قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما " صراط من أنعمت عليهم ". واختلف الناس في المنعم عليهم؛ فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد؛ وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.

وفي هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية؛ لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه؛ وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم؛ فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة؛ وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه، وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية.

غير المغضوب عليهم ولا الضالين

اختلف في المغضوب عليهم والضالين من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى؛ وجاء ذلك مفسرا عن النبي ﷺ في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير أيضا قوله سبحانه في اليهود: وباءوا بغضب من الله. وقال: وغضب الله عليهم وقال في النصارى: قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. وقيل: المغضوب عليهم المشركون. والضالين المنافقون.

وقيل: المغضوب عليهم هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة؛ والضالين عن بركة قراءتها. حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره؛ وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: المغضوب عليهم باتباع البدع؛ والضالين عن سنن الهدى.

قلت: وهذا حسن؛ وتفسير النبي ﷺ أولى وأعلى وأحسن. و( عليهم ) في موضع رفع، لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدة. ورجل غضوب أي شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض؛ سميت بذلك لشدتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته؛ أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: إن الصدقة لتطفئ غضب الرب فهو صفة فعل.

ولا الضالين الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق؛ ومنه: ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: أئذا ضللنا في الأرض أي غبنا بالموت وصرنا ترابا؛ قال:

ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا

والضلضلة: حجر أملس يردده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونه، قال: أو غضبة في هضبة ما أمنعا

قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب " غير المغضوب عليهم وغير الضالين " وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين؛ فالخفض على البدل من ( الذين ) أو من الهاء والميم في ( عليهم )؛ أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام؛ فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه؛ أو لأن ( غير ) تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحي غير الميت، والساكن غير المتحرك، والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي، والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني؛ وحكي عن الخليل.

( لا ) في قوله ولا الضالين اختلف فيها، فقيل هي زائدة؛ قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: ما منعك ألا تسجد. وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكي والمهدوي. وقال الكوفيون: " لا " بمعنى غير، وهي قراءة عمر وأبي؛ وقد تقدم.

الأصل في الضالين: الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: ولا الضألين بهمزة غير ممدودة؛ كأنه فر من التقاء الساكنين وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن " فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير:

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت

نجز تفسير سورة الحمد؛ ولله الحمد والمنة.

Report Page