[16:111] - النحل - التنوير

[16:111] - النحل - التنوير

ابن عاشور

﴿يَومَ تَأتي كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ عَن نَفسِها وَتُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ [ النحل - 16:111 ]

يجوز أن يكون هذا استئنافاً وتذييلاً بتقدير: اذْكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقع عقب التحذير والوعيد وعيداً للذين أنذروا ووعداً للذين بُشّروا.

ويجوز أن يكون متّصلاً بقوله: { إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ سورة النحل: 110 ]، فيكون انتصاب يوم تأتي كل نفس } على الظرفية { لغفور رحيم }، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثراً لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذٍ. فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف.

والمجادلة: دفاع بالقول للتخلّص من تبعة فِعل. وتقدم عند قوله تعالى: { ولا تجادِل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ).

والنّفس الأول: بمعنى الذات والشخصصِ كقوله: { أنّ النفس بالنفس } سورة المائدة ( 45 ). والنّفس الثانية ما به الشخص شخص؛ فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قَتل أخُوه ابناً له ( من الحماسة ):

أقول للنفس تَأسَاءً وَتسلية... إحدى يديّ أصابتني ولم تُرِد

وتقدم في قوله: { وتنسون أنفسكم } في سورة البقرة ( 44 ).

وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركّبة من جَسد وروح فيسمونها النفس، أي الذات وهي ما يعبّر عنه المتكلّمُ بضمير ( أنا )، ويستشعرون للإنسان قوّة باطنيّة بها إدراكه ويسمّونها نفساً أيضاً. ومنه أخذ علماء المنطق اسمَ النفس الناطقة.

والمعنى: يأتي كل أحد يدافع عن ذاته، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله. ففاعلُ المجادلة وما هو في قوّة مفعوله شيءٌ واحد. وهذا قريب من وقوع الفاعل والمفعول شيئاً واحداً في أفعال الظنّ والدّعاء، بكثرة مثل: أراني فاعلاً كذا، وقولهم؛ عَدِمْتُني وَفقَدْتُني، وبقلّة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرىء القيس:

قد بتّ أحرُسُني وحْدي ويمنعني... صوت السّباع به يضبَحْن والهام

{ وتُوفّى } تعطَى شيئاً وافياً، أي كاملاً غير منقوص، و{ ما عملت } مفعول ثاننٍ ل { توفّى }، وهو على حذف مضاف تقديره: جزاء ما عملت، أي من ثواب أو عقاب، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلّة فتجري مجرى المَثل.

والظّلم: الاعتداء على الحقّ. وأطلق هنا على مجاوزة الحدّ المعيّن للجزاء في الشر والإجحاف عنه في الخير، لأن الله لما عيّن الجزاء على الشرّ ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحقّ لكل فريق. والعلمُ بمراتب هذا التحديد مفوّض لله تعالى: { ولا يظلم ربّك أحداً } [ سورة الكهف: 49 ].

وضميرا { وهم لا يظلمون } عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى، لأن { كل نفس } يدلّ على جمع من النفوس.

وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم { وتوفى كل نفس ما عملت }، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلاً، فصرّح بهذا اللازم بطريقة نفي ضدّه وهو نفي الظلم عنهم، وللتّنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى. وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول.

Report Page