(وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ)

(وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ)

مجلة بلاغ - العدد السادس عشر - صفر 1442 هـ



الشيخ: همام أبو عبد الله

روى أحمد في مسنده بإسناد صححه جمع من أهل العلم عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَيَكُونُ جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: فَخِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، عَلَيْكَ بِالشَّامِ، عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ».

هذا الحديث من أدلة فضائل الشام العديدة المذكورة في القرآن والسنة وأقوال أهل العلم وحوادث التاريخ..

ومعنى «وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ» كما قال التوربشتي في شرح مصابيح السنة: "ليسق كل واحد من غديره الذي يختص به، وغُدُر جمع غدير، مثل: سرير وسرر، والأجناد المجندة بالشام لا سيما أهل الثغور والنازلين في المروج من شأنهم أن تتخذ كل رفقة لنفسها غديرا تستنقع فيه الماء للشرب والتطهر وسقي الدواب، فوصاهم بالسقي مما يختص بهم، وترك المزاحمة فيما سواه والتغلب؛ لئلا يكون سببا للاختلاف وتهييج للاختلاف وتهييج الفتنة".

وقال شهاب الدين الرملي في شرح سنن أبي داود: "فيه الحث على الشرب من ماء الغدران الذي ببلاد الشام؛ لأنه اجتمع فيه بركة ماء السماء الذي قال الله فيه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} وبركة أرض الشام".

وقال الطيبي في شرح المشكاة: "واسقوا من غدرها؛ لأنه أوفق لكم من البوادي".

وقد ذكر عدد من أهل العلم أن الضمير في غدره يعود على الشام وذكر بعضهم أنه يعود على اليمن، وجمع بينهم عبد الحق الدهلوي في لمعات التنقيح فجعله متعلقا بالشام واليمن فقال: "أي دليل على تخصيص تعلقه بالشام؟.. وهذا حكم يشترك فيه الكل لاشتراك العلة".

ولا تعارض بين هذه المعاني والأقوال السابق ذكرها، فهي جزء من دلالات الكلام والإرشاد النبوي، ولكن المعنى المثير للانتباه هنا هو قول العلماء: "فوصاهم بالسقي مما يختص بهم وترك المزاحمة فيما سواه والتغلب؛ لئلا يكون سببا للاختلاف وتهييج للاختلاف وتهييج الفتنة" وكأن الشام لما كانت مباركة كثيرة الخير كثر طمع الطامعين فيها، ولم تكتف النفوس الطامعة بما نالها من خير في هذه الأرض بل دخل عليها الشيطان فأرادت الاستحواذ على نصيب غيرها كذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» متفق عليه.

ولما كانت الخلطة مؤثرة في الطباع، نبه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الصحابة الأخيار وطلائعهم المجاهدة على هذا المزلق، ونهى النفوس عن التمادي في الهوى، وحذرها من فتنة التسلط على حقوق الآخرين والتغلب على أماكنهم؛ لأن الفتنة تكمن في ذاك والشر يعقبه، فإذا كان الحذر واجبا على الصحابة فهو على من بعدهم أوجب.

ولعل قوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا التنبيه: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» يدل فيما يدل من معانيه على أنه لا داعي للخصومة على دنيا الشام، فإن الله تبارك وتعالى تكفل بالشام وأهلها فبارك لهم فيها وبارك لهم حولها، فلكل نصيبه فيها، قال جل وعلا: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}.

فآه كم جر الطمع في غُدُر الآخرين من فتن! وكم أراق من دماء! وحسبنا الله ونعم الوكيل.



هنا بقية مقالات العدد السادس عشر من مجلة بلاغ الشهرية لشهر صفر 1442


Report Page