وقفات مع كارثة الزلزال وآثارها

وقفات مع كارثة الزلزال وآثارها

مجلة بلاغ العدد ٤٧ - رمضان ١٤٤٤هـ⁩⁩⁩






الدكتور: أبو عبد الله الشامي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

 

ففي قوله تعالى: ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وَنَبْلُوكُمْ)، يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال.. وقوله: (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) أي: فنجازيكم بأعمالكم". انتهى كلامه رحمه الله.

فالمصائب والأقدار المؤلمة مادة اختبار يختبر بها الله يقين وصبر عباده ليستخرج عبوديتهم في جميع الأحوال، يقول ابن القيم رحمه الله: "الله يربّي عبدَه على السراء والضراء، والنعمة والبلاء؛ فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة مَن قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عَبْدُ السَّراء والعافية؛ الذي يعبد الله على حرفٍ، فإن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريبَ أن الإيمان الذي يَثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمانُ النافع وقت الحاجة، وأما إيمانُ العافية فلا يكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاءِ والعافية"، وفي هذا السياق أحببت أن أقف عدة وقفات مع زلزال كهرمان مرعش وآثاره، فأقول وبالله التوفيق:

 

* الوقفة الأولى - في بيان حقيقة المصائب وأسبابها:

يقول تعالى ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)).

ويقول أيضا: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) ويقول سبحانه: ((وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)) قال قتادة: "إن الله خوف الناس بما يشاء من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه".

وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن، وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل يرسلهما يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ثم قال : يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمتي هذه أمةٌ مرحومةٌ، ليس عليْها عذابٌ في الآخرةِ، عذابُها في الدُّنيا؛ الفتنُ، والزلازلُ، والقتلُ» صحيح أبي داود، وعن عائشة رضي الله عنها، «أنَّهَا سَأَلَتْ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فأخْبَرَهَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ علَى مَن يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ».

 

دل ما سبق على أن الأقدار المؤلمة والمصائب مادة اختبار لعباد الله يذكرهم ليتوبوا ويتعظوا ويرجعوا فيستخرج بها عبوديتهم وتتباين أحوالهم مع هذا الاختبار، وفق الآتي:

 

القسم الأول: المعاند المكابر، وفي مثل هؤلاء يقول تعالى: ((وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا)) [الإسراء: 60].

 

القسم الثاني: المنافق، وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)) [الحج: 11].

 

القسم الثالث: التائب المنتكس، وفي مثل هؤلاء يقول تعالى: ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يونس: 22 - 23].

 

القسم الرابع: التائب الصادق، وفي مثل هؤلاء يقول تعالى: ((وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [التوبة: 118].

 

القسم الخامس: الصادق الثابت، وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: ((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)) [الأحزاب: 22 ، 23].

 

* الوقفة الثانية - في التفاعل الاجتماعي:

انقسم المسلمون في داخل منطقة الكارثة وخارجها إلى نموذجين رئيسيين:

القسم الأول: صادق حقق مبدأ الجسد الواحد (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وأبرز شعار الثورة الثابت "يا الله ما لنا غيرك يا الله" فتجلت نتيجة ذلك صورة الولاية الإيمانية ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) و ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)).

 

القسم الثاني: منافق متسلق مستثمر في مصائب المسلمين بلسان الحال والمقال.

 

* الوقفة الثالثة - الاستثمار السياسي القذر للكارثة:

كشف الزلزال وآثاره وفضح نفاق المنظومة الدولية الجاهلية المتوحشة وأدواتها القذرة الساعية لاستثمار الأزمة في تكريس التطبيع مع عصابة البعث المجرمة بغية إعادة إنتاجه سياسيا كما تم إعادة انتاجه ميدانيا، واللافت هذه المرة تطبيع المحسوبين زورا على ما يسمى بأصدقاء الثورة لتتكشف مهمة ودور أركان الثورة المضادة الناعمة المتكاملة مع مهمة ودور أركان الثورة المضادة الخشنة التي لم تفوت بدورها الكارثة لتلميع صورتها الوحشية بمكياج المساعدات الإنسانية والخدمات الطبية، وبالمقابل كشفت الكارثة وهن وارتهان الإطارات الوظيفية -السياسية منها والعسكرية- المتسلطة على ثورتنا، الأمر الذي يستدعي مقاربات جديدة في ظل واقع مرير يُفرض فيه الحل الاستسلامي قسرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.




هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٧ رمضان ١٤٤٤هـ

Report Page