ما تسلسل لا يتحصل
مُصعب♾ يسأل السائل:
السلام عليكم ما هي مشكلة قاعدة: ما تسلسل لا يتحصّل؟
وكيف يتم الرد على أصحاب هذا المذهب؟ أرجو التبسيط. شكرًا لكم وبارك الله فيكم
♾ الجواب:
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين قول: ما تسلسل لا يتحصّل يجب فيه التفصيل كما فصّل فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لذلك أول ما ينبغي أن يُطرح في الذهن هو سؤال:📜 ما المقصود بالتسلسل تحديدًا؟
📜وما الذي يُشار إليه بالتسلسل من أنواع المتكررات؟
-----------------------------------------
♦️ هل المقصود بالتسلسل هو مطلق تكرار الوقوع في الأعيان؟
على أساس أن السلسلة إنما هي حلقات متكررة متتابعة من نفس النوع.
♦️ أم المقصود هو عملية العد والإحصاء نفسها في الأذهان؟
ذلك أننا إذا قلنا إن المراد هو ♦️ مطلق تكرار الوقوع، كان الكلام موجهاً إلى ما في الأعيان، أي خارج الذهن من أنواع الوقائع المتكررة.
وإن قلنا إن المراد هو ♦️ مبدأ العد والإحصاء، كان موضوعنا هو عمليات العد والإحصاء نفسها، وهي عمليات ذهنية محضة.
-----------------------------------------
🍁فإذا كان موضوعنا هو ما في الأعيان، وكنا نثبت ربا موصوفًا وجوبًا بالأولية والأزلية، أي بأن ذاته لم تزل موجودة في الماضي بلا بداية كان المتعين علينا أن نثبت لذلك الرب وقوع الفعل منه بعد الفعل، والمشيئة بعد المشيئة، والكلام بعد الكلام، بلا ابتداء من الأزل.
فلسنا فقط نقول بأن العقل لا يمنع من مبدأ تكرار الحدوث المتسلسل لبعض أنواع الحوادث على المعنى اللغوي للفظة حوادث لا على المعنى الكلامي من الأزل بلا أول، بل إنه ♦️ يوجب ♦️ ذلك في حق رب العالمين جل شأنه، أي أن توصف صفات الفعل فيه وجوبًا بأنها قديمة النوع حادثة الأحاد. 🍁
لماذا؟
لأنه كما بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرًا، لا يتصور في ذات توصف بالكمال أن تكون قد مرت بها لحظة في الزمان الماضي بدأت فيها صفات الأفعال وكانت من قبلها ♦️ معطلة ♦️ عن تلك الصفات، جميعًا، الذات التي لم تكن تفعل شيئًا أبدًا، ولا يصدر عنها شيء أبدًا مما يصح في العقل واللغة أن يدخل تحت معنى الحدوث أو الوقوع، التي كانت كذلك من الأزل في الماضي وصولًا إلى نقطة حصل فيها ابتداء ذلك كله. هذه كانت صنمًا أو جمادًا على التحقيق، ثم اكتشفت صفات الحياة والفعل اكتسابًا.
-----------------------------------------
♦️- استطراد بسيط هنا في(مسألة الزمان) و سنعود لصلب الموضوع بعد قليل
(((((🍁💠 ومن أبطل الباطل اعتراض المخالف على هذا الإلزام بقوله إننا لا نثبت زمانًا قبل الحادث الأول أصلًا، لأنه عندنا هو بداية زمان نفسه، هو بداية الزمان نفسه. فلا يرد علينا ما ألزمتمونا به من كون الذات الإلهية عاطلة عن كل فعل وكل صفة فيما قبل الحادث الأول، لأنه لم يكن قبله زمان أصلًا.
هذا المذهب ينقض نفسه بنفسه عند التدبر، فإنك إذا قلت إن حادثًا ما قد حدث، فإن هذا يقتضي إثبات زمان سابق عليه لم يكن فيه قد حدث. هذا يقتضي إثبات زمان سابق قبله لم يكن فيه قد حدث هذا الحادث نفسه، وإثبات لحظة زمنية يقع فيها حدوثه، ثم إثبات زمان لاحق يكون فيه قد حدث فيما مضى وانصرم.
هذه الأزمنة الثلاثة يقتضيها مجرد معنى الحدوث، وهو ذلك الزمان الذي يأتي لاحقًا ويكون فيه قد حدث الحدث فيما مضى وانصرم هو ذلك الزمان اللاحق الذي يقع فيه وصفك إياه بأنه قد حدث في الماضي.
نقول إن هذا المذهب ينقض نفسه بنفسه، لماذا؟
لأنك إذا قلت إن حادثًا ما قد حدث فيما مضى، فإن هذا يقتضي إثبات زمان سابق قبل هذا الحدث، حيث لم يكن فيه قد حدث. ويقتضي كذلك إثبات لحظة زمنية معينة وقع فيها حدوثه، ثم إثبات زمان لاحق يكون فيه قد حدث فيما مضى وانصرم، وهو ذلك الزمان اللاحق الذي يقع فيه وصفك إياه بأنه قد حدث في الماضي.
فمجرد قولهم إن الحادث الأول لم يكن قبله زمان ماضٍ أو لم يكن قبله قبل كما يقولون،
هذا تناقض ظاهر يبطل معنى الحدوث نفسه.
لأنه إذا لم يكن يجوز أن يقال إنه كان مسبوقًا بعدمه، فإن أي شيء يكون حادثًا إلا إذا كان هو الشيء المسبوق بعدم نفسه، خلافًا للقديم الذي لا يسبقه عدم نفسه.
فمن لوازم قولهم إبطال مطلق معنى الأزلية نفسه عن العالم وعن رب العالمين كذلك، بل ونسبة النقيضين إليهما جميعًا: الأزلية والحدوث معًا، سبحان الله وتعالى علوًا كبيرًا. وهذه مسألة لا يتسع هذا المقام للحديث عليها
وحسبنا هنا أن نقول إن مذهب أهل السنة هو التسوية بين الماضي والحاضر والمستقبل في كون الله تعالى فعالًا لما يريد، يفعل الفعل بعد الفعل بلا فعل أول ولا آخر، خلافًا لأصحاب مذهب بداية مطلق الحدوث ومطلق الزمنية. هذا فهم لما جعلوا مطلق معنى الزمان، أي على ما يقع في أذهان العقلاء من إطلاق معنوي عند سماعهم اللفظة، لما جعلوا المعنى ذلك محصورًا في نظرية الجوهر والعرض، بقياسهم جميع الموجودات تحت معاني الزمان كما زعموا، تفسيرات لحركات وتغيرات في الأجسام المخلوقة. لم يبقَ للزمان معنى عندهم إلا أن ينطلق على تقلب الأعراض المزعومة على الجواهر المزعومة. وما ترتب عليه أن أصبحت معاني الزمان كقولنا "قبل" و"بعد" و"ماضٍ" و"حاضر" و"مستقبل" و"زمان المضارع" و"المضي" و"الاستقبال" الذي هو من ضروريات معنى الحدوث والوقوع في اللغة عقلًا، أصبحت تلك المعاني مشروطة عندهم بوجود هذا العالم نفسه، الذي هو عندهم محل الحوادث والزمان والتغير والحركة، وغير ذلك من المعاني اللغوية المطلقة التي أفسدوها بتنظير ميتافيزيقي.
فبدون وجود العالم المخلوق وجواهره وأعراضه المزعومة، فلا حدوث ولا فعل ولا مضي ولا حضور ولا استقبال ولا وقوع لشيء بعد شيء أصلاً. وإذا لزم، فلا يكون من معنى الأزلية والقدم ولا للحدوث ولا الوجود نفسه إلا حال وجود هذا العالم في إطار موجوداته. فتأمل. 💠🍁 )))))
-----------------------------------------
♾ عدنا :📜
المهم أننا إن أردنا بالتسلسل ♦️ مطلق تكرار الوقوع أو الحدوث في الخارج من حيث المبدأ، لم يكن في العقل ما يمنع من وقوع ذلك، بل كان واجبًا في جنس الأفعال الإلهية كما قدمنا،
لأن الله تعالى لا يصح أن يوصف بأنه لم يزل فعالاً لما يريد من الأزل إلى الأبد كما هو اعتقاد المسلمين، إلا بهذا التسلسل. فهو تسلسل في الحوادث على المعنى اللغوي المطلق للحدوث كما أسلفنا.
لا نقول إنه لا يتحصل، بل يجب أن يكون قد تحصَّل في الماضي وجوبًا كما يجب أن يحصل في المستقبل وجوبًا، ولا فرق، فهو تسلسل ♦️ واجب ♦️ في الجهتين، في الماضي وفي المستقبل على السواء. 📜
-----------------------------------------
♦️-استطراد بسيط هنا في تسلسل العلل سنعود لصلب الموضوع بعد قليل
(((( 🍁💠 وأما إن أردنا بالتسلسل في الحوادث ما كان اللاحق منه لا يحصل في الأعيان إلا إذا كان السابق قد حصل قبله، فهذا لا شك أن العقل يمنع من تسلسله، لأنه لا يتصور حصوله أصلاً إذا كان متسلسلًا في العلل أو في التعليل بدون أن يكون لسلسلة أول، لأن وجود اللاحق معلل بوجود السابق عليه في تلك السلسلة، فلا بد فيها من أول وإلا انعدمت من أساسها. ومن ذلك سلسلة بناء جدار من اللبن مثلاً، فأنت إذا وضعت فيه لبنة ما، فلا قيام لها في محلها إلا على لبنة أخرى تحتها قد وضعتها من قبل، وهكذا وصولًا إلى لبنة أولى لا محالة. فلماذا وجب ثبوت اللبنة الأولى؟ لأنه إن لم توجد اللبنة الأولى، لم يتصور عملية البناء نفسها ابتداء من الأساس. الجدار لا يُبنى إلا على أساس يحمله، فكيف يُبنى بلا لبنة أولى تحمل ما فوقها؟ هذا لا يعقل.
وكذلك قول القائل في المثال المشهور: "لا يعطيك درهمًا إلا كنت قد أعطيتك درهمًا قبله"، فهذا يقتضي أن لا يعطيه درهمًا أبدًا، لأنه لا بد أن تكون عملية العطاء مترتبة بعضها على بعض، وهذه ابتداء في الماضي.
هذه ونحوها من أنواع الحوادث التكرارية، لا يتصور في العقل حدوث لاحق منها دون حدوث السابق أولاً، لأن اللاحق يترتب عليه ويتعلل به. والعقل يمنع من التسلسل في المعلولات كما هو معلوم. فإذا كان هذا هو المقصود بقول "ما تسلسل"، لم يتحصل، فنقول نعم لم يتحصل ولا شك، ولكن هذا هو تسلسل العلل الذي نوافقكم في المنع منه. وأغلب وأعم أمثلتهم في الحقيقة في كتبهم التي يردون بها على مسألة تسلسل الحوادث هذه من هذا الصنف ، و تدخل في هذا الباب. 💠🍁 ))))
-----------------------------------------
♾ عدنا :📜
ومما يقع في أغلاطهم في مسألة التسلسل أيضًا، أن ترى أحدهم يقول إن مطلق التكرار في المعدودات لا يجوز أن يتسلسل، لأنه لا يكون من معقول إجراء أي عد أو إحصاء أصلاً، والحال أننا لن نثبت معدودًا أول نبدأ منه، فكيف نحصي ونحن لا نجد معدودًا أول نبدأ منه في الإحصاء؟
وهذا ما عبرنا عنه آنفًا بقولنا: 🍁 "التسلسل في عملية العد والإحصاء نفسها في الأذهان"
في عملية العد والإحصاء، وقلنا إنه مما يكون في الأذهان لا في الأعيان، والتسلسل فيه ♦️ممتنع♦️ ولا شك،
إذ بدون اتخاذ شيء من المتكررات المراد إحصاؤها على أنه هو المعدود الأول أو نقطة بداية العد إن شئت، ثم إجراء عملية العد انطلاقًا منه وصولًا إلى معدود الأخير لم يحصل لنا عد و لا إحصاء أصلا ،
تشير إلى شيء ما فتقول: هذا هو الأول، ثم تشير إلى الذي يليه فتقول: هذا هو الثاني، وهكذا وصولا إلى آخر معدود فيحصل لك بذلك إحصاء تلك المجموعة المغلقة (على اصطلاح الرياضيين closed set🌀)
للموجودات أو الحوادث المراد إحصائها فإن قدرنا أن رأيت سلسلة من الحوادث تتكرر في عادتك ثم أردت أن تحصيها ولم تكن تعلم نقطة لبدايتها في الماضي فلك أن تختار نقطة زمنية في الماضي اختيارا اعتباطيا أو بحسب غرضك من العد بطبيعة الحال، تقول: هذه هي نقطة بداية العد والإحصاء، ثم تأخذ في عدد الحوادث حادثا بعد حادث إلى نقطة معينة، ثم تقول إنه قد وقع من تلك الحوادث ما بين اللحظتين الزمنيتين كذا وكذا عدد كذا وكذا من مرات الحدود، 📜
♾➖➖➖{1️⃣2️⃣3️⃣4️⃣5️⃣6️⃣7️⃣8️⃣}➖➖➖♾
♾ ومثال ذلك قولك :
🍁 قد علمنا أن الله تعالى قد تكلم في القرآن بــ 77,437 كلمة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وتنجمت على امتداد 23 سنة هي مدة البعثة النبوية. فهذه عملية ذهنية أحصينا بها بعض كلمات الله تعالى التي لا تنفذ ولا تنحصر، ولا بداية لها في الأزل ولا نهاية لها في المستقبل.
أي أننا أحصينا جزءًا ضئيلاً من السلسلة. وهي عملية، أي عملية العد والإحصاء، يجب فيها الابتداء بمعدود أول، والانتهاء إلى معدود آخر بحسب غايتنا من العد.
ولا يجوز فيها التسلسل، ولا نستطيع ولا نطيقه، ولكن هذا الامتناع لا يلزم منه امتناع تسلسل نوع الحوادث التي هي موضوع ذلك العد والإحصاء نفسه عندنا.
📜فلا يلزم من اضطرار القائم بالعد والإحصاء إلى اتخاذ معدود أول يبدأ منه العد أن تكون لتلك السلسلة نفسها حادث أول في الماضي قد بدأت منه 📜
اللهم إلا إن كانت السلسلة لنوع من الحوادث يتعلل اللاحق فيه بالسابق كما بينا. كما أنه لا يلزم من اضطرار القائم بالعد والإحصاء لاتخاذ معدود أخير ينتهي إليه في العد ويتم به الإحصاء أن يكون للسلسلة نفسها حادث أخير في المستقبل تنتهي عنده وجوديًا.
فليست أول كلمة نزلت في القرآن هي أولى كلمات الله تعالى، ولا آخر كلمة نزلت في القرآن هي آخر كلمات الله تعالى، بل لم يزل رب العالمين يتكلم بما يشاء من الأزل بلا بداية وإلى الأبد بلا نهاية، سبحانه وتعالى كما هي عقيدة أهل السنة.
وهذا المعنى، أعني معنى ♦️ التفريق بين ما يكون في الأذهان من وجوب انحصار عمليات العد وما يفرض كونه في الأعيان من قدم نوع الأحاد المعدودة نفسها، ♦️
هو الذي أبطل به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذا المعنى، وهو الدليل الذي يبطل به شيخ الإسلام دليل التطبيق عند الأشاعرة🍁
♦️- ستطراد بسيط في الرد على الأشاعرة و نعود بعد قليل
(((( 🍁💠ورده عليهم،
إذ قالوا إننا إذا قدرنا سلسلة لا بداية لها في الماضي قد انتهت عند نقطة ما، وقارنّاها بسلسلة أخرى لا بداية لها في الماضي كذلك، ولكنها انتهت عند نقطة متأخرة عنها في الزمان، حصل لدينا سلسلتان أزليتان، إحداهما أطول من الأخرى، والفرض أنَّهما متساويتان في جهة الماضي لكونهما أزليتين، فدل على بطلان التسلسل في الماضي. هذا هو مضمون برهان التطبيق.
وعندما أجابهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بأن الفارق في التطبيق، الذي هو عملية ذهنية محضة، لا يلزم منها بطلان التسلسل في الماضي في الأعيان، أي وقوعا، كما أنه لا يلزم منه بطلان التسلسل في المستقبل سواء بسواء
لأن القدر المتسلسل اللامتناهي في كل من السلسلتين لا تتأثر حقيقته كونه قد وقع بتفاوت القدر الإضافي الداخل في إحدى السلسلتين تحت الحصر والإحصاء. فالذي اختلف في عمليات التطبيق والمقارنة إنما هو تحريك عملية العد والإحصاء البشري لتبدأ من نقطة لاحقة لا من نقطة متقدمة.
و إلا فإن صحت أن كانت كلتا السلسلتين أزليتين، فلا معنى للمقارنة بينهما أصلاً في العد والإحصاء،
لأن كل منهما ليس له نقطة ابتداء في الماضي أصلاً حتى نقيس منها، وما لا يتناهى لا يحصر ولا يعد، كما ذكرنا.
فلا معنى المطابقة أصلاً، لأن الذي يتفاوت في هذه الحالة إنما هو الفارق بين لحظة زمنية كانت فيها إحدى السلسلتين ماضية في التسلسل، وكانت الأخرى قد توقفت لتوها، وبين لحظة زمنية أخرى لاحقة تكون فيها السلسلة الأخرى قد توقفت للتو .
وهذا الفارق من حيث المبدأ قابل للإحصاء والعد، لأنه ينحصر بين نقطتين زمنيتين معينتين.
فلا علاقة لعملية العد والإحصاء بإثبات أو نفي وقوع تسلسل أي من السلسلتين من الأزل.
والمعنى نفسه يصح في جهة المستقبل كما في جهة الماضي، كما بينه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.💠🍁 ))))
♾ عدنا :📜
ولهذا نقول أن أفعال الله تعالى في الماضي، وإن كان علمه سبحانه يحيط بها وجوبًا،
إلا أنه لا يحصيها ولا يعدها سبحانه، لأنها لا تدخل تحت معنى الإحصاء والعد أصلاً.
ولا نقول إنه لا يعلم لها عددًا، ♦️ لأن ما لا يدخل في معنى الإحصاء لا تعلق لعدده بصفة العلم، كما أن المحال والممتنع عقلاً لا تعلق له بصفة القدرة. ♦️
فنقول إن الله تعالى لا يدخل في علمه عدد أفعاله في الماضي من الأزل، كما أنه لا يدخل في قدراته فعل المحالات. سبحانه، والذي كان منه في الماضي قد وقع وتحصل بالابتداء، ولا حادث أول من حيث الوقوع في الأعيان واقع ثابت.
أما العد والإحصاء فلا تحصل لذلك العدد، لأنه لا يعد ولا يُحصى عقلاً إلا لكمية محصورة بين معدود أول ومعدود أخير. وانتبه لهذا
ولهذا نحكم بطلان السؤال عندما يأتي من يسأل، ويقول: هل يعلم ربك كم وقع منه في الماضي من الأفعال؟
فنجيب بأن السؤال باطل،
📜لأنك إن قلت نعم يعلم، لزم حصر لتلك الأفعال الإلهية في عدد ما، ومن ثم لزم إثبات فعل أول وهو باطل. وإن قلت لا، نسبت إلى ربك الجهل وهو أيضًا باطل. فنقول إن السؤال نفسه باطل من بابه: كقولهم، هل يستطيع ربك أن يخلق إلهاً مثله مثلاً، أو هل يستطيع ربك أن يحمل صخرة أو يخلق صخرة لا يستطيع أن يحملها؟ فكما لا تتعلق القدرة بالمستحيلات، فكذلك لا يتعلق العلم بالممتنعات، فيكون سؤال هذا كقول قائل: هل يستطيع ربك أن يحصر ما يمتنع في العقل أن ينحصر؟
والسؤال باطل متناقض كما ترى. فجوابنا أن هذا السؤال نفسه فاسد، خلافاً للأشاعرة الذين يقول قائلهم: نعم يعلم قطعاً، لأن فعله لا تتسلسل في الماضي، لأن ما تسلسل لم يتحصل.
وخلافاً للمعتزلة الذين يقول قائلهم: العلم الإلهي لا يتعلق بالجزئيات ولا بالأمور المتغيرة، وإنما يعلم المجملات وحسب.
سبحان الله تعالى عما يقول الجميع علوّاً كبيراً، والحمد لله الذي جعل أهل السنة على الحق فيما ضلت فيه تلك الفرق جميعاً. 📜
و يقول القائل :
إذا كان العلم لا يتعلق، فما معنى قول تعالى:
"بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا"
🔴 🍁لم نقل إن الله لا يعلم عدد ما خلق، وإنما قلنا إنه قد كان منه من المخلوقات ما لا ينحصر في عدد أصلا حتى يصبح ذلك العدد معلوما له، سبحانه وتعالى، فتأمل كيف صيرت أنت ما هو كمال له سبحانه، إلى نقص مزعوم! العدد إنما يستوعب أفرادا محصورة من خلقه، قلت أو كثرت، فهو يعلم سبحانه كم خلق من الخلق بعد كذا وكم خلق قبل كذا، وكم خلق بين كذا وكذا، من أفعاله الاختيارية سبحانه وتعالى، فإن العد والإحصاء لابد فيه من معدود أول ومعدود آخر، وهذا لا يدخل فيه ما لا يتناهى. وإلا فعلى كلامك هذا، يلزمك أن تمنع أن يكون لله تعالى مخلوقات في المستقبل لا تتناهى، إذ بالمثل أيضا يقال: هل يعلم الله تعالى عدد ما هو خالق من المخلوقات في المستقبل أم لا؟ فإن قلت نعم، منعت من أن يكون منه في المستقبل مخلوقات لا نهاية لعددها، وإذن لزمك إفناء الجنة والنار جميعا، وهذا ما التزمه بعض المعتزلة وكفرهم لأجله أهل السنة، وكثير من الأشاعرة و الماتريدية كفروهم به أيضا. وإن قلت لا، لا يعلم، لزمك اتهام الله تعالى بالجهل كما تلزمنا به هنا، فتأمل!!
تعلق صفة العلم بالمحال هنا، هو أنه سبحانه يعلم أن حصر ما كان من خلقه في الماضي وما هو كائن منه في المستقبل، محال، وهذا لا إشكال فيه إن شاء الله تعالى🍁🔴
و يقول القائل :
طيب كيف جئنا إذا كان قبلنا لا نهاية من المخلوقات .انا فهمت انها حوادث غير معتمدة على بعضها ، لكن لم افهم كيف ان قبلنا لا نهاية من الخلق كيف جئنا اذاً وملا نهاية من حوادث قبلنا .
🔴 🍁جئنا كما جاء من كان قبلنا ومن كان قبلهم ومن كان قبلهم، بلا بداية في الماضي. والإشكال الذي يزعمه الأشاعرة في ذلك، تقليدا لبعض فلاسفة اليونان، غير وارد على تسلسل الحوادث أصلا، وإنما يرد على تسلسل الأسباب والعلل! فهم يجعلون مطلق امتناع الإحصاء والحصر (لأنه ليس من المتصور أن يقال إننا خلقنا بعد عدد كذا وكذا من المخلوقات مثلا)، دليلا على امتناع الوقوع، وهذه مغالطة خلط ما في الأعيان بما في الأذهان !
الله تعالى لم يزل يخلق من الأزل بلا مخلوق أول. صحيح إن هذا أمر لا نتصوره ولا شك، لأننا لا نجد له قياسا على شيء فيما نشهد، ولكنه ليس ممتنعا عقلا، بل نقيضه هو الممتنع، لما له من لوازم فاسدة. ولا يعترض على تسلسل الحوادث على هذا المعنى، بأنه يقتضي ألا نخلق نحن، لأننا لا نزعم كما زعمته الفلاسفة أنه ما من مخلوق إلا وهو مخلوق بالضرورة من شيء قبله!
وعلى تقدير أن الله تعالى لم يزل يخلق المخلوقات بالاستحالة، بمعنى أن كل مخلوق يخلق بالاستحالة من شيء قبله، كما خلقت الأرض من الماء والسماء من الدخان، فلا يقتضي ذلك قدم شيء مع الله تعالى، كما بينه شيخ الإسلام رحمه الله، إذ كل مخلوق يكون حادثا بعد عدم نفسه، وإنما القديم هو الرب جل شأنه وكونه موصوفا بالخلق سبحانه. ولا يلزم أن يكون ثمة مخلوق أول حتى يحدث كل مخلوق في السلسلة، لأن الله لم يزل يخلق كما يشاء ويختار، وهو وحده يعلم كيف كانت مشيئته واختياره في جميع ذلك من الأزل.🍁🔴
فالأشاعرة في الحقيقة، وهم أصحاب تلك القاعدة، يمنعون التسلسل في الماضي منعاً مطلقاً ولا يفصلون هذا التفصيل، بل كل ما ينسب له التسلسل في الماضي عندهم لا تحصل له سواء كان يتعلل بعضه ببعض أو لا يتعلل، بصرف النظر عن نوع الحوادث التي ينسب إليها التسلسل.
وسبب ذلك تلبسهم بميتافيزيق الجوهر والعرض اليونانية، كما أشرنا آنفاً، التي جعلت مطلق معنى الحدوث محصوراً في تقلب الأعراض على الجواهر كما في نظرياتهم و نظريات من أخذوا عنهم. لما كان منهم قياس جميع ما يدخل تحت معنى الحدوث على هذه الصفة أو الحقيقة الميتافيزيقية المزعومة.
وكان المطلوب التوصل إلى إثبات حدوث العالم باستعمال تلك الميتافيزيقا نفسها. صار من اللازم إثبات أن جنس الحوادث نفسه حادث، وإلا كان العالم قديماً لقدم ما كان العالم محلاً له تماماً، ألا و هو الحوادث، يعني إذا كانت الحوادث قديمة، لزم أن يكون العالم نفسه قديماً لأنه هو عندهم محل الحوادث ولا حوادث إلا فيه. واضح من هنا تفكر ذهن أبي حامد الغزالي في مسألة وجوب حادث أول في الماضي، وهذه القاعدة تطلق ما تسلسل لم يتحصل، مما يجعلها برهاناً عقلياً على حدوث العالم. ولم ينتبه إلى ما يقتضيه ذلك من مقتضيات تبطل اسم الله الأول نفسه وصفته الأزلية في حق الله عز وجل، وتحيل إلى صنم أو جماد لا عمل له قبل ذلك الحادث الأول المزعوم. والله أعلم، والحمد لله أولاً وآخراً.