في ظلال الهجرة

في ظلال الهجرة

مجلة بلاغ العدد ٣٩ - المحرم ١٤٤٤ هـ





جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

قال تعالى: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) "سورة الأنفال آية 30".

وقال تعالى: ((إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) "سورة التوبة آية ٤٠".

 

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ((إِلَّا تَنْصُرُوهُ))، أي: تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره ((إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)) أي: عام الهجرة، لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج.. صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر..." إلى أن قال رحمه الله: "وقوله: ((عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) أي: في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه، حكيم في أقواله وأفعاله".

 

* بعض الدروس المستفادة من الهجرة:

 

- أولاً: الأخذ بالأسباب، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)) وعندما تبذل الاستطاعة فإن الله يهيي للمرء أسبابا عجز عنها ببشريته.

 

- ثانياً: لم يعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك ربّ الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك مع بذل أسبابه كاملة تحلى بيقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) فقد كان مطمئنا أن الله عز وجل سينصره ويؤيده.

 

ثالثاً: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب يطارده الكفار، حتى في هذه الظروف يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة: (كأني بك قد لبست سواري كسرى).

 

رابعاً: حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنت المجتمع المسلم بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أحوج إلى البحث عن صحبة صالحة.

 

خامساً: وهو من الدروس المهمة، وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ينقل ربنا سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق، لكن لا بد من رسم طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولا بد أن يسير في هذا الطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب، ليعطي قدوة لكل قائد. وصدق من قال: لا طاعة لملك لا تعنيه كرامة أهله.

 

سادساً: رأينا في الهجرة استعداد الصديق رضي الله عنه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، ورأينا شدة محبة الصديق رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم من خلال تجهيز الراحلة، ومن خلال بكائه فرحا لما أُذنَ له بالهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلال تنظيفه للغار وسيره أمام الرسول وخلفه حماية له، وكيف أنه بذل كل ماله في سبيل الله، وأخيرا كيف أن الصديق سخر كل عائلته كاملة في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا عبد الله ينقل الأخبار، وأسماء تنقل الطعام والشراب، وعامر بن فهيرة يخفي آثار الأقدام، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في سبيل خدمة دينه.

وفي ذكرى الهجرة النبوية نذكر المسلمين بالعمل لدين الله واتباع سنة رسول الله، عسى الله أن يستخدمنا في محابه وطاعته، وأن يكرمنا بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبجواره في جنات النعيم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.





هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٩ محرم ١٤٤٤ هـ

Report Page