صمام أمان الأمة

صمام أمان الأمة

مجلة بلاغ- العدد الثاني عشر- شوال ١٤٤١


الشيخ: أبو مسلم العنداني


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، تقبل الله طاعتكم في رمضان، وبارك لكم في عيدكم وأعاده عليكم بالرحمة والبركة والنصر، آمين، أما بعد:

فلما كانت الشريعة الإسلامية منهجا تضبط كل شؤون الحياة، ولما كان العلماء بالشريعة مصوبين لطريق الضالين، ناصحين للعاصين، آمرين بالمعروف، وعن المنكر ناهين، ولعلوم الشريعة معلمين ناشرين، ولما كانوا -كما وصفهم صلى الله عليه سلم- ورثة الأنبياء، وكانوا -كما سماهم ابن القيم في عنوان كتابه- موقعين عن رب الأرض والسماء: كان حقًّا أن نسميهم "صمام أمان الأمة"، فحيثما وقعت الفتن واختلطت الأمور، واحتاج الناس إلى المرشد، فليقصدوا العلماء، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).


وللعلماء صفات ملازمة كثيرة، ومن أهمها خاصة لعلماء ثورة الشام المباركة:


أولا- خوفهم من الله تعالى وخشيتهم منه، فإن العلم الذي تعلموه عرّفهم بالله تعالى، فهابوه لعظمته ورجوه وأحبوه لرحمته، وكانوا له من الخاشعين، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، وإن الخشية تورث التجرد والإخلاص، فلا ينحاز العالم لرأي طلبًا لقرب من قائد، أو رغبةً لمحبة قوم، أو سعيًا لنيل مكانة أو منصب، إنما يتكلم بما يمليه عليه دينه وعلمه، راجيًا بذلك رضوان الله تعالى، ولا يصرّ على ما تبيّن له خطؤه اتباعا لهواه أو خوفا من سقوط هيبته، بل يرجع إلى الحق ولو كان الرجوع شاقا، ولنا في رجوع عمر لقول معاذ رضي الله عنهما عبرة عندما قال: "لولا معاذ هلك عمر".


ثانيا- العمل بالعلم، وهذا من دواعي تقبل الناس لنصحه وتوجيهه، فالإنسان مجبول على سماع واتباع من يخالطه ويتقدمه في الصف، وعلى الإعراض عن من ينظّر عليه من بعيد ولا يشاركه، وقد ذم الله هذا فقال: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، ولقد امتلأت سيرة العلماء الربانيين رحمهم الله بما يدلنا على عملهم بعلمهم وتقدمهم للصفوف حتى في أشق الأعمال على النفس كالجهاد في سبيل الله، فهذا الشافعي رحمه الله تعالى كان يرابط في الإسكندرية، وكان يقول: "كانت همتي في شيئين؛ العلم والرمي، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة" والأمثلة على ذلك كثيرة وفيرة.


ثالثا- رحابة الصدر، وتقبل رأي العلماء الآخرين، والسعي لنبذ الفرقة والخلاف؛ لأنها من أسباب هدم بنيان الأمة وتسلط أعدائها عليها، لا سيما إذا كان ذلك من العلماء، قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها" وكلامنا عن نبذ الاختلاف لا يعني الاتفاق على كل الفروع، فلكل رأيه واجتهاده، فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في كثير من المسائل، وما زالت المحبة مغروسة في قلوبهم، وإنما المقصود ما يلي:

أ- القول اللين عند النصح، والمجادلة بالتي هي أحسن عند النقاش، فقد أمر الله بذلك موسى وهارون في دعوتهما لفرعون، وأمرنا بذلك في جدالنا مع أهل الكتاب، والمؤمن بذلك أحق وأولى.

ب- الاجتماع على مشاريع عامة مشتركة، فإذا رأى الناس العلماء على اختلاف مشاربهم ووجهات نظرهم مجتمعين، فلا شك أنهم سيتبعونهم، ولا يعني هذا إقرار المتفقين بعضهم بعضا على الآراء التي يتبناها المشاركون معهم في مشروعهم، لا سيما إذا اقتضى المشروع معالجة فتنة أو نازلة عامة، ومن نظر لمقاصد الشريعة وجد بعض الواجبات تتطلب اجتماعا ولو مع مخالف في أصل من الأصول، فالجمعة والجماعة والجهاد لصد عدوان الصائل مأمور بهم ولو مع المخالفين، ولو خلف إمام مبتدع في بعض الأحوال.

د- العفو والمسامحة في ما تعلق بالحق الشخصي، والتخلي عن حظوظ النفس، والحذر من وساوس الشيطان التي يوحي بها أن هذا الحق حق للأمة وليس شخصيا، وأن المخاصمة هنا محمودة بل واجبة، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).


أسأل الله أن يحفظ علماءنا ويرشدهم للحق، والحمد لله رب العالمين.



هنا بقية مقالات العدد الثاني عشر من مجلة بلاغ


Report Page