صفحات محترقة | مصطفى
-مشروع يقظة فكر.عبير، فتاة تعيش في المجتمع المصري، وتقضي أيامها بعادية، بين المدرسة والمنزل، وبعض الرحلات العائلية، فتاة لطيفة محبّة لأخوتها، وفضولية، كثيرة السؤال، تحب والدتها كثيرًا، أبوها يعمل في أحد المصانع، رجل عادي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأمها ربة منزل لم تحصل على التعليم الجامعي، لكنها تجيد القراءة والكتابة
والد عبير قليل الصبر، مما يؤدي لبعض المشاحنات في المنزل، ويحصل أحيانًا أن تشهد عبير على مشادة كلامية بين والدها ووالدتها قد تصل للعنف في لحظات غضبٍ عارمة، تكبر عبير وتذهب إلى المدرسة الثانوية حاملة في صدرها من التساؤلات والتوقعات الشيء الكبير فتجد من حديث الفتيات أمورًا قد غابت عنها تمامًا في مراحلها العمرية الأولى!
وكما تعلمون فإن المجتمعات المحافظة يغلب عليها التستر على الأمور المتعلقة بالرغبة الجنسية والعلاقات الحميمية، يختم عليها بالشمع الأحمر وتدفن بعيدًا عن أعين الصغار وللأسف هذا يشمل أيضًا أمورًا أخرى كما يتعلق بصحة المعتقد الإسلامي، فأغلب الشباب اليوم منكب على العلوم التي تدور حول منحه لقب "مثقف" والعلوم التي تؤدي إلى عمل براتب جيد.
وهذا من آثار الحداثة التي دخلت عالمنا العربي، في المحصلة لم تجد هذه الفتاة إجابات اسئلتها في المنزل، بينما وجدت غياب هذه الأسئلة عن أذهان صديقاتها، كان شغلهم الشاغل أحوال الممثلين والممثلات، بالنسبة لها المسرحيات هي الأفضل، تحلم دائمًا بتأليف قصة مسرحية تحير كل من يطّلع عليها، فلا يعلم أهذه تمثيلية أم واقع قد هرب من مكانه واختبئ على خشبة المسرح، على الرغم من حالتها المادية المتواضعة، لم تفكر يومًا بصعوبة تحقيق ذلك الحلم.
في يوم مدرسي، تجلس بجوارها فتاة غريبة الأطوار، تتعرض للتنمر باستمرار، وتحصل بينهما محادثة قصيرة، تفصح فيها تلك الفتاة عن استغرابها من القيود التي فرضها عليها المجتمع، تحادث عبير بحماسة عن حياة تتخيلها، حياة مثالية، حيث كل شيء مسموح كما في بلاد الغرب والعروض التلفزيونية والروايات الرومنسية، ترد عليها عبير ببراءة، هذا غير ممكن وحرام، ولا يجب علينا قبوله، فتحدثها تلك الفتاة بنبرة مازحة، جربي بعضًا من الأمور ثم توبي إن لم تعجبك، وترسل لها فتاوى منحرفة تبيح بعض السلوكيات المحرمة، وعبير التي لا علم لها، تنخدع بالحجج الواهية التي وردت عليها، فتقرر أن تجرب بعضًا من الأمور، يبدأ الأمر بعدم تغطية عينيها عند القبلات في أفلام الإثارة المعروضة على التلفاز، وقراءة بعض الروايات الماجنة، ثم تتطور الحالة بعد شهور لتشاهد عبير فيلمها الإباحي الأول!
تمر الأيام، وتنجرف عبير مع الموجة، تدخين وصديقات سوء واختلاط، لقد صادفت شابًا لطيفًا ووقعت في حبه، تسعد بلقائه، وتشتاق له في انشغاله، وتواعده دون علم أحدٍ من أهلها ولا يخفى عليكم، في ليلة واحدة، ينتهي كل شيء..
لن يكن يحبني منذ البداية، تهمس عبير لنفسها، حدثته عن الزواج، فتحول عنها واتهمها بالاستغلالية، لعدم مراعاتها لحالته المادية، واستمر في تقديم حجج واهية، ببساطة لقد خذلها حبها الذي حسبت أنها ستموت معه، بمجرد أن أفصحت عن نواياها.
كل الرجال هكذا، همست صديقتها بأذنها في تلك الليلة، حيث كانت تبكي بشدة في حضنها.
تبتعد عبير قليلًا عن الصحبة والعلاقات، وتبدأ بالتركيز على حلمها في أن تصبح مؤلفة مسرحيات.
شكسبير! كم هو رائع، سأدرس في الثانوية بشدة، لا احتاج الرجال، سأصبح مؤلفة لا تقهر!
تدمدم في عقلها بتناقض حزين، يخفيه عنها قلبها المتألم
وبالفعل تنجح في الثانوية وتذهب لكلية الأدب الإنكليزي، تنبهر بتاريخه وحضارته، وقصصه المتنوعة، كما تبحر في مؤلفات الشعراء والروائيين والفلاسفة، تفكر بطريقة سطحية تدعمها مشاعرها وذكرياتها، والدها وحبيبها لم يكونا سندًا لها، فتجد في نفسها وعلمها سند، بالطبع هي لن تتذكر ساعات عمل أبيها الطويلة، ولن تتذكر أقساطها الجامعية، ولن تتذكر فنجان القهوة الصباحية كل يوم كيف جاء! كل ما تتذكره صرخات والدتها المتألمة في ذلك اليوم..
وفي أحد الأيام، تحدثهم على العشاء حول حلمها، سأصبح مؤلفة مسرحيات!
ماذا؟ مؤلفة؟ ما حاجتنا لمؤلمة!؟ نحن ندرسك حتى تكوني معلمة لغة إنكليزية، أخاك الكبير مسافر، والبقية مازالوا صغارًا!
والدك يكبر يومًا بعد يوم
والمسرحيات لا تطعم خبزًا!
تسود الدنيا في وجهها، الخذلان في كل زاوية من زوايا الذاكرة، تبحث عن مهرب، أجل
هناك، حيث تجلس في غرفتها وحيدة، تدفن نفسها في أعمال فنية ماجنة، لا تستحق حتى أن تسمى بفن، هي شهوة، شهوة مجردة ترمي بالقلب بعيدًا عن كل ما يتعلق بالحقيقة، مخدر خيالي يسحق النفس وينسيها الحقيقة، مخدر كأي مخدر، يزول مفعوله، فيحتاجه الدماغ أكثر
جحيم أبدي تواجهه كلما احتاجت مكانًا يخفي عنها الواقع المحبط كما تفهمه.
بعد فترة من اشتداد الأسى والشعور بالغربة في نفسها، هي غربة أولى تسبق غربة تالية تهرب إليها، تتفاقم في داخلها حتى تنزع عنها أصل شهوتها لتلغي حقيقتها فتحولها لشكل من أشكال اللذة المحضة، وكل لذة بلا ألم ومسؤولية هي لذة كاذبة خادعة تخدر صاحبها، أجل بالفعل، قررت عبير في لحظة ما، أن تصبح مثلية، تشتهي النساء دونًا عن الرجال، وكانت هذه بداية الفاجعة، حيث أخذت عبير تفقد عبيرها، لتتحول لإنسانة باهتة هي أقرب إلى الموت من الحياة، وتستمر الأمور بالتفاقم، حتى تنتشر الفضيحة، ونظرًا لحالة أهلها، فلا يوجد بصيص أمل في تفهمهم لحالة ابنتهم بأي حال من الأحوال وبالطبع لم يكن هناك تسامح
من الحكومة المصرية، يزداد الأمر سوءًا عندما يصل بها الأمر إلى الإلحاد، ماهي إلا شهوة قلب فارغ تحكمت في العقل فأحكمت قبضتها عليه، فقتلته، فما الملحد إلا شخص قد انتحر عقليًا منذ مدة، ثم أعلن انتحاره!
تجد عبير نفسها أمام مفترق طرق، أحلاها مر
كيفما ذهبت الويلات ستلاحقها، حتى ذلك اليوم حيث نشرت قصتها في مجتمع إلكتروني للمثليين، فقدموا لها حلولًا براقة الظاهر، تلك الفتاة التي عاشت الغربة الروحية، لدرجة أنها تنكر أن جسدها هو مسكن هذه الروح-بل هي تنكر الروح نفسها- لم تجد أدنى مشكلة في الاغتراب عن وطنها وأهلها
أجل، لقد حسمت قرارها
ستقدم طلب لجوء إلى كندا، مبدئيًا ستهرب إلى تايلاند ومن هناك إلى كندا، وأخيرًا ستتحرر من كل القيود، لتقيد نفسها من جديد، بطريقة أشنع وأفظع
تقف عبير وقفة مع نفسها، تتأمل مستقبلها الوردي الذي ستعيشه في كندا، فهل سيكون الملاك الكندي-كما تتصوره- أحن عليها من أبيها وأمها؟ تساؤل مهم لم تأبه به.
وصلت إلى تايلاند، وقامت بتقديم طلب اللجوء إلى كندا، هي الآن لاجئة تنتظر الترحيل، تعيش في إحدى الشقق في الخامسة والعشرين من عمرها، تحلم بغد وردي خالٍ من القيود
تحلم بفردوس أرضي، وكما هو معلوم، ينتهي الحلم وتصحو على واقعها الأليم بعد فوات الأوان.
تمضي الأيام، تعيش وحيدة منبوذة، تبني قصورًا من النجاحات في خيالها على الأرض الكندية، برفقة أناس متحررين من القيود سيقومون بإسعادها، تمر الأيام وتزداد الوحدة، لا شيء يبدو كما تتوقع، ابتعادها عن أهلها ومجتمعها لم يزدها إلا سوءًا، لم تعد مخدراتها المعتادة تجدي، لربما تحقق حلمها القديم، أجل ستقوم بكتابة مسرحية!
مسرحية هي البطلة فيها، مسرحية لن يقرأها أحد سواها!
هي أشبه بقصة فالمسرح لم يكن واسعًا بما فيه الكفاية ليحتوي مشاعرها، تكتب بعض الصفحات عن مراحل حياتها، وكيف انحدرت ولم تنتبه إلى نهاية المنحدر ثم سقطت إلى العمق السحيق للمعاناة اللامتناهية، تنتهي من كتابة قصتها، ثم تكتب في الصفحة الأخيرة
“تعبت لم يعد للحياة قيمة، انتهى الدور. “
لم تكتب في تلك الصفحات كيف انتحرت، كل مافي الأمر، أنها ذكرت تلك التفاصيل الصغيرة في يومها الأخير، ذهبت إلى مكان ما، وألقت التحية على طفلٍ صغير، وبائع متجول معروف في الحي الذي تسكن فيه، ثم عادت إلى المنزل، وأحرقت حلمها الذي اختزلته في صفحة واحدة أبقتها قريبة منها، ثم سارت بخطوات متعبة نحو الموت، لكنها لم تمت في ذلك اليوم، بل قبل مدة طويلة، تموت.
في تلك اللحظة، تتساءل
هل يراها الله في تلك اللحظة؟
تتمنى ذلك، لا تريد أن تموت دون أن يعلم أحد، أنها كانت تبتسم حتى اللحظة الأخيرة.
#اِنتهاج4
#اصنع_قصة