ذكريات ومواقف 1

ذكريات ومواقف 1

مجلة بلاغ - العدد 20 - جمادى الآخرة 1442




الأستاذ: غياث الحلبي

كان عمر وضاح خمس سنين عندما هبَّ الشعب السوري عام 2011م مطالبا بحقوقه رافضا للظلم والاستعباد الذي عاناه من نظام الأسد الطائفي المجرم، ولذلك فهو يذكر كثيرا تفاصيل الثورة التي تربى في أحضانها ورضع العزة والكرامة من ثُديِّها.

إنه الآن يبلغ من العمر خمسة عشر عاما، لقد عاش في ظل الثورة عشر سنين كاملة بحلوها ومرها وعسرها ويسرها وشدتها ورخائها ومحنها ومنحها وانتصاراتها وانكساراتها وفتوحاتها وتراجعاتها.

وقف وضاح في فسحة سمائية وسط معهده الذي يتعلم فيه ويقع في ريف مدينة إدلب، كان الوقت ليلا والهواء النقي يداعب شعره، والنسيم العليل يطبع قُبلا على وجنتيه، طافت الذكريات بوضاح فركب في قطارها يمر على محطات حياته محطة محطة.

تذكر أباه وهو يقول له عندما كان عمره ست سنين وقد أرسله إلى معهد ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ ما تيسر من القرآن مع أحكام الطهارة والصلاة، يقول له: يا بني تعلم العلم وإياك والتهاون في ذلك، فلم يصيرني إلى ما تراه من الفقر والعوز وبؤس الحال إلا الجهل.

ثم حاول والده أن يحبس دمعة رفضت إلا أن تنهمر رغما عنه، وقال وقد أخذ بيد ابنه حتى أتى نافذة في جدار الغرفة: أترى هذه الأراضي الزراعية الشاسعة التي تراها مد البصر؟

فقال وضاح: نعم.

فقال: لقد كانت جميعها ملكي قبل أن يغصبنيها عمك الأكبر.

فقال وضاح: وكيف ذلك يا أبي.

فقال: هذا ما أريد أن أحدثك به، لقد كان جدك رحمه الله لا يهتم بشيء سوى الأرض يحرثها ويزرعها ويأكل من خيرات الله التي تخرجها الأرض ويطعم المساكين، وقد علَّمنا العمل في الأرض منذ كنا أطفالا في عمرك، فلم يدفعنا إلى كُتَّاب ولم يُدخلنا مدرسة، إنما اكتفى بتعليمنا الفاتحة وسورا قصيرة وبعض أحكام الطهارة والصلاة، حتى زكاة الزروع التي كان يخرجها كل عام لم نكن ولم يكن هو يعرف عنها شيئا، غير أنه كان عند الحصاد يدعو إمام المسجد، ويقول: هذا ما أخرَجَته أرضي فخذ منه حق الله وضعه حيث يجب، فكان الإمام يفعل ذلك.

ثم إن جدك مات إلى رحمة الله، وورثنا نحن أبناءه الثلاثة الأرض؛ فأما أخي الأصغر فلم يكن يحب الريف ولا العمل في الأرض، ويؤثر على ذلك الحياة في المدينة والعمل هناك، فسرعان ما باع نصيبه من أخيه الأكبر وقبض الثمن ومضى إلى المدينة، وأراد أخي الأكبر شراء نصيبي أيضا فرفضت، فهذه الأرض كأحد أولادي وقد شربَتْ من ماء جبيني كما شربَتْ من ماء المزن.

حاول عمك كثيرا وأعطاني سعرا أكثر مما أعطى أخي الأصغر إلا أني أصررت على الرفض، ولما يئس مني قال: إما أن تبيع وإما أن آخذها بغير ثمن جبرا عنك.

فقلت: لن تصل إلى قليل ولا كثير منها طالما أن روحي في جسدي، وظننت أنه سيأخذها بالقوة، ولم أعلم أنه سيأخذها بالغدر والخديعة.

ومضت الأيام وأرسل عمك رجلا ليصالحني وإياه، ولم أكن أعلم أن عمك أرسله، إنما ظننته فاعل خير، وتم الصلح وعادت المياه إلى مجاريها كما يقال، ولم يدر بخلدي أن عمك يمكر ليسلبني أرضي.

وذات يوم أرسل عمك أحد أبنائه يدعوني إلى بيته، فذهبت، فلما دخلت وجدت عمك جالسا وحوله بضعة رجال، وقد ارتدى أحدهم بزة فاخرة، ولا أخفيك يا ولدي أني لم أرتح لهم، ورأيت غضب الله في وجوههم السوداء، فلما جلست قال لي عمك: لقد اشتريت أرضا من هذا الرجل -وأشار إلى أحدهم- في القرية المجاورة، وأريدك أن تشهد على العقد، وهذا -وأشار إلى صاحب البزة- الأستاذ المحامي جاء ليوثق العقد.

فقلت: حبا وكرامة.

ثم التفت عمك إلى الرجل الأول، وقال له: هل قبضت كامل ثمن أرضك؟

فقال الرجل وهو يحاول أن يخفي ضحكة استهزاء: نعم، ولم أعلم بمن يستهزئ وقتها، ثم علمت بعد أنه كان يستهزئ بي.

ثم قال للمحامي: تفضل أستاذ.

فأخرج أوراقا من حقيبته وطلب بطاقاتنا الشخصية، وأخذ ينقل منها بيانات إلى أوراقه، وبما أني أُميٌّ لا أعرف قراءة ولا كتابة فلم أدر ما يفعل.

ثم التفت إليَّ المحامي، وقال: وقع هنا.

فقلت: أما التوقيع فلا أعرفه، ولكن أبصم.

فقال: ضع بصمتك هنا.

فبصمت.

ثم التفت إلى عمك، فقال: أتبصم أم توقع؟

فقال: بل أبصم.

ثم وقع رجلان من الحضور، وشربنا الشاي، وانقضى المجلس، ثم انصرفت وأنا فرح بأن أخي اشترى أرضا في القرية المجاورة.

وبعد أسبوع فوجئت برجل يأتيني في أرضي ويخبرني أن أخي رفع عليَّ دعوى يطالب فيها بأن أفرغ له أرضي؛ لأني بعته إياها.

فقلت: كيف ذلك؟ أنا لم أبع أرضي لأحد، وأردت أن أقص على الرجل قصة الأرض كاملة منذ وفاة جدك.

إلا أن الرجل قاطعني، وقال: عذرا يا عم، ليس لي علاقة بهذا، إنما وظيفتي أن أبلغك بموعد الجلسة في المحكمة، ثم أعطاني ورقة وانصرف.

وأدركت أن عمك قد خدعني واستغل جهلي بالقراءة والكتابة فبصمت على بيع أرضي وأنا أظن أني شاهد، وأن الحاضرين كانوا شهود زور اتفق عمك معهم ومع المحامي.

ولما حان موعد الجلسة القضائية ذهبت وقصصت قصتي على القاضي، فلم يقبل مني، وجاء شهود الزور فوضعوا أيديهم على كتاب الله وحلفوا كذبا وزورا، وقُضي لعمك علي، وخسرت أرضي بأسرها، وعدت مَسُودا بعد أن كنت سيدا، وأجيرا بعد أن كنت رئيسا، وآخذا للزكاة بعد أن كنت معطيها، ومسكينا بعد أن كنت متصدقا على المساكين، وموضع إشفاق الناس ورحمتهم بعد أن كنت محل رجائهم.

مكثت أياما لا أقابل أحدا ولا ألتقي به، ولا أقوى على عمل، إلا أن بكاءك وأنت رضيع وتضاغي إخوتك ودموع أمك التي لا تنقطع أجبرتني على الخروج لأبحث عن عمل، إلا أني آثرت قبل ذلك الذهاب إلى عمك وتذكيره أواصر القربى بيننا، وما آل إليه حالنا، علّ الرحمة تهتدي إلى قلبه فيرق لنا ويرد حقنا، فلما وصلت وطرقت الباب خرج أحد أبناء عمك، وقال: ماذا تريد؟ ولم يقل لي: تفضل بالدخول، مع أننا نقولها لذلك الغريب الذي لم نره قط عندما يطرق الباب.

فقلت له: أين والدك؟

فقال: في الداخل.

فقلت: ادعه لي.

وقبل أن يدخل كان عمك قد سمع صوتي فخرج ووقف أمام الباب، وقال: ماذا تريد؟

فقلت له: أطفالي يبكون جوعا.

فابتسم ابتسامة ماكرة، وقال: حقك علي، طرقت باب كريم، ثم أخرج مبلغا من المال، وقال: خذ واشتر لأولادك ما يشبعهم، وإذا لم يكفك هذا المبلغ فعد إلي أزيدك.

فابتلعت هذه الإهانة على مضض، وقلت: أعد أموالك إلى جيبك، فلست بحاجة لها، إنما أريد أرضي.

فقال: أي أرض؟

قلت: أرضي التي اغتصبتها مني.

فقال: لم أغتصب منك شيئا، إنما بعتني إياها وبصمت على العقد وشهد على ذلك الشهود، ثم لم ترض بذلك كله حتى حكم القضاء لي بها.

فقلت له: هذا الكلام تضحك به على غيري، أما أنا فأنت تعلم أني أعلم أنك مكرت بي وسلبتني أرضي.

فقال: إن شئت دفعت لك مائة ألف وتكف عن قولك للناس: إني سلبت أرضك.

فقلت له: يا ظالم أرض ثمنها خمسة ملايين تريد أن تعطيني ثمنها مائة ألف.

فقال: إذن اعمل في الأرض وأعطيك ثلاثة أضعاف أجر العامل، وقوت سنتك من الأرض، فأن تعمل عند أخيك خير من أن تعمل عند الغريب.

فقلت له: لأن أسف المل وأمص الحصى خير لي من أن أعمل عندك.

وأنا أعلم يا ولدي أنه كان يريدني أن أعمل عنده ليقول الناس: إني بعته الأرض فعلا ولم يأخذها غصبا.

ثم وليت ظهري لعمك وانطلقت باحثا عن عمل، والحياء يأكل وجهي، فعند من أعمل؟ ولمن أكون أجيرا؟ إلا أنه لا بد مما ليس منه بد، فذهبت إلى أحد أصدقاء جدك في القرية، وكان قد سمع بقصتي، وطلبت منه أن يستعملني في أرضه، ففعل، وعملت عنده سنتين، وكانت الأجرة بالكاد تكفيني.

ثم علمت أن عمك أصيب بمرض السرطان وأن المرض استشرى بجسده بصورة كبيرة، وهو يمضي ليله يصرخ ألما، والحق أقول لك يا بني: إن الدم لا يتحول ماء، لقد تألمت لما نزل بعمك، وهممت بعيادته مرارا، إلا أن نفسي لم تطاوعني.

ولم تمض سوى أيام إلا وابن عمك يأتيني، فيقول: إن أبي يريد رؤيتك.

فقمت فانطلقت مسرعا حتى أدخل عليه، فلما دخلت سلمت، ثم أشار إلي بالجلوس، فجلست، وقال لابنه: اخرج وأغلق الباب خلفك، ففعل، فنظر عمك إليَّ، وقال: هذا وقت لا ينفع فيه الكذب، أنا أعلم أن ما حل بي هو بسبب أرضك، وقد أراني الله عدة آيات فلم أتعظ ولم أعتبر.

ثم سكت قليلا، ثم قال: أتذكر المحامي الذي وثق عقد البيع المزور؟ لقد نام وترك المدفأة مشتعلة فسرت النار في بيته فأحرقت البيت، وكاد أولاده أن يموتوا خنقا لولا لطف الله، أما هو فقد أصيب بحروق من الدرجة الثالثة، فلما بلغني الخبر أخذ ضميري يؤنبني فأُسكته، وقلت: صدفة.

وبعد شهر علمت أن أحد شهود الزور كان يعمل في معمل لصناعة الكراسي البلاستيكية، فلما حاذى إحدى الآلات انزلقت قدمه، فاتقى السقوط بوضع يده اليمنى على الآلة فقطعت يده التي وضعها على كتاب الله وحلف كذبا، وعاد ضميري يؤنبني، فقلت: عامل أحمق لا يجيد التعامل مع الآلات.

ثم بلغني أن الشاهد الثاني بينما يصلح الكهرباء في بيته وهي مقطوعة إذ عاد التيار فجأة وأمسكه ولم يفلته إلا وقد شلت يده اليمنى، فلما بلغني، قلت: عجبا لهذا الجاهل أما كان يعلم أنه لا بد من إنزال القاطع الكهربائي قبل التعامل مع الكهرباء.

فلم تنفعني تلك الآيات جميعا حتى نزل بي ما ترى من المرض، ثم صرخ من الألم صرخة منكرة دفعت أحد أولاده أن يركض ويفتح الباب، ظانا أني أنتقم من أبيه، وتتابع الصراخ منه، وكان صراخا يفتت الأكباد، ثم هدأ قليلا، وقال: هأنذا أموت وأرجو منك أن تسامحني!

فقلت له: رد إليَّ أرضي حتى أسامحك.

فقال: يا ليت، ولكن فات الأوان!

فقلت: ماذا تقصد؟

فقال: لقد وزعتها على أبنائي الذكور وسجلتها بأسمائهم.

فقلت: اجمعهم فأخبرهم بالحقيقة.

فقال: لن يرضوا بذلك.

ثم نادى أبناءه الذكور، فاجتمعوا جميعا، وكانوا أربعة، وقال لهم: يا أبنائي إني ميت عما قريب، وقد قدمت في حياتي كل ما أقدر عليه، وإن الأرض التي تعرفون هي لعمكم، وقد أخذتها منه غصبا، فإن كانت لي عندكم كرامة فردوا الأرض إلى عمكم وأنقذوني من عذاب الله غدا.

فأطرقوا رؤوسهم جميعا ولم يردوا عليه بكلمة، فقال: أجيبوني ما لكم؟

فسكتوا، ثم قال أحدهم: لا بد أن شدة الألم جعلت أبانا يهلوس ولا يدري ما يقول، ثم التفت إلي بوجه عبوس كالح، وقال: انصرف أيها الرجل فليس لك عندنا شيء.

فقلت: أنتم دعوتموني ولم آتكم، ثم نظرت إلى عمك.

فقال: ألم أقل لك: إنهم لن يرضوا؟

ثم ما لبث بعدها إلا قليلا ومات.

وها أنت يا بني تراني كيف أتعب وأشقى لأوفر لأسرتي مستلزماتها، ولو كنت أعرف القراءة والكتابة لما وقعت في تلك الداهية.

شعر وضاح بالألم يعتصر فؤاده لحال أبيه، ثم سار به قطار ذكرياته إلى محطة أخرى من محطات حياته.

يتبع في العدد القادم إن شاء الله.



هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد 20 جمادى الآخرة 1442 هـ

Report Page