دماء على القميص الأصفر

دماء على القميص الأصفر

مجلة بلاغ - العدد الرابع عشر - ذو الحجة ١٤٤١



الأستاذ: غياث الحلبي


نشأ الأخوان عمر وشادي في بيت واحد، فهما من أب واحد وأم واحدة، وكان شادي أكبر من عمر بسنتين، ومع ذلك فقد تقدما لنيل الشهادة الإعدادية سويا، فقد كان شادي مخفقا في دراسته وقد رسب سنتين في الصف التاسع، ثم رسب للمرة الثالثة عندما تقدم مع أخيه عمر، فيما نجح عمر بتفوق وأخذ شادي ينظر بعين الحسد إلى أخيه.

بعد ذلك تابع عمر دراسته وانصرف شادي للعمل في إصلاح السيارات.

ومرت الأيام وتمكن عمر من دخول كلية الهندسة في جامعة حلب، وعندما كان في السنة الثانية منها انتفض الشعب السوري، وكان لطلاب الجامعة وخاصة الكليات العملية النصيب الأوفى من المظاهرات المنددة بجرائم النظام، والمطالبة بإسقاطه.

ولم يكن عمر يشارك في شيء من ذلك، فقد كان لا يهتم سوى بدراسته.

وذات يوم عاد عمر إلى البيت ففوجئ بأخيه شادي يخبره بأنه انضم إلى قطعان الشبيحة الذين كانوا يقتحمون المظاهرات بأساليب وحشية لم يكن عمر قد علم عنها شيئا بعد.

فقال عمر لأخيه: اسمع يا شادي، أنا لا أحب المظاهرات، ولست أشارك فيها، ولكني في الوقت ذاته لست ضدها، والناس لهم الحق في أن يطالبوا بالتغيير.

فأجاب شادي: أي ناس هؤلاء؟ عملاء مندسون، يريدون أن يخربوا البلد.

دهش عمر لدى سماعه أخيه يردد كلاما كالببغاء، دون أن يعرف شيئا عن حقيقة الأمر.

وصرخ قائلا: عملاء مخربون؟! مدسوسون؟! ما هذا الهراء؟!

إن جميع أصدقائي بالكلية يخرجون في المظاهرات وهم من أسر معروفة مشهورة، وأصدقائي جميعا يحبون بلدهم ويريدون له الخير، وهم أفضل من الجهال الذين يتحكمون بالبلد وخيراته.

فقال شادي: أراك تتحدث كالمخربين، اسمع يا عمر، لئن رأيتك في مظاهرة فلن أتوانى عن ضربك واعتقالك.

صدم عمر مما قال له أخوه، وقال: أوتفعل يا شادي؟!

فقال: نعم أفعل، وأنت وأصدقاؤك وجامعتك فداء لحذاء السيد الرئيس.

شعر عمر بنفور شديد من أخيه، فتركه وانطلق إلى غرفته، وأقبل على دراسته بجد ونشاط.

ومرت الأيام وازدادت المظاهرات كثافة وانتشارا، وازداد الشبيحة وحشية وعنفا وهمجية في التعامل معها، وبدأ عمر يشعر ببغض شديد للشبيحة ورجال الأمن، وقرر أخيرا أن يشارك في المظاهرات، فكان يضع اللثام على وجهه ويخرج ليلا ينادي مع المتظاهرين، فمرة يقول: يا درعا حنا معاكِ للموت، وأخرى يقول: الشعب يريد إسقاط النظام، وثالثة يردد معهم: هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه، حتى يأتي الشبيحة بعصيهم وهراواتهم وأسلحتهم النارية فيفرقون المظاهرات.

وتطور الأمر مع شادي فأصبح مسؤولا لأحد حواجز النظام النصيري، واتخذ لقب أبي حيدر، وطار صيته بين الناس، أنه شرير لا يعرف الرحمة، وشديد الأذى للناس.


ثم تطورت الأمور ودخل الجيش الحر إلى حلب، وسيطر على مناطق واسعة منها، ونشر قناصته على الأبنية العالية لقنص العساكر والشبيحة.


بقي عمر في بيته ضمن مناطق سيطرة النظام، ولم يلتحق بالعمل المسلح، فقد كان يريد أن يتخرج من جامعته أولا، ولكنه على تواصل دائم مع عدد من أصدقائه الذين تركوا جامعتهم والتحقوا بالجهاد.

وفي يوم من الأيام خرج عمر من بيته إلى الجامعة، وكان لا بد أن يمر في طريقه على الحاجز الذي تقع مسؤوليته على أخيه الشبيح أبي حيدر، وبينما هو ينتظر دوره في رتل السيارات التي أمامه ليمشي، شاهد أخاه وهو ينزل شابا جامعيا من إحدى الحافلات، ثم ينهال عليه ضربا وهو يسبه ويشتمه، ثم يأمر زبانيته أن يعتقلوه، ومرت السيارات، ومر عمر أيضا بسيارته، وحاول أن يكلم أخاه بشأن الشاب لعله يتركه، إلا أن أخاه قال له بفظاظة: انقلع أحسن ما أعتقلك وأضعك معه.

لم يكمل عمر طريقه، بل عاد إلى البيت وقد خيم الحزن على فؤاده، وتصدعت أركان قلبه لهول ما رأى وسمع من أخيه، وفكر أن ينتقم لهذا الشاب ولجميع المتظاهرين الذين يتعرضون لأذى من أخيه أبي حيدر.

وخاض عمر صراعا مريرا مع نفسه، إن المجرم الذي يريد أن ينتقم منه أخوه ومِن أمه وأبيه، وفي الوقت نفسه فقد ملأ الدنيا شرا وفسادا.


وقع عمر في حيرة شديدة من أمره، ولجأ إلى الله تبارك وتعالى يطلب منه التوفيق والهداية، ثم أخذ المصحف ليقرأ شيئا من القرآن، وأول ما فتحه وقع بصره على قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) فقوي قلبه، واشتد عزمه، ثم قام بفتح النت ففوجئ بمقطع مسرب للشبيح أبي حيدر وهو يعذب رجلا مسنا ويأمره بأن يقول أن ربه بشار وماهر، فازداد غيظا على هذا الوحش البشري، وبدأ الترتيب من أجل إراحة المسلمين من شروره.


كان بالقرب من البيت مفرق مرصود من قناص الجيش الحر، إلا أن هذا القناص كان لا يطلق النار إلا على من يرتدي اللباس العسكري، ولذا كان من السهل على الشبيحة ورجال الأمن والعساكر المرور بهدوء واطمئنان وهم يرتدون ملابس مدنية.

قام عمر بالتواصل مع أحد أصدقائه وأخبره أن الشبيح أبا حيدر سيمر غدا في الساعة السابعة قبيل المغرب من أمام المفرق، ويجب أن يقوم القناص بضربه، فسأله كيف سنعرفه، وأنت تعلم أن الشبيحة يرتدون ملابس مدنية عند مرورهم من المكان المرصود لعلمهم أننا لا نستطيع تمييزهم وبالتالي لا نقنصهم.

فقال له: سيكون مرتديا قميصا أصفر فاقع اللون، وذلك في الساعة السابعة تماما، اتفقنا؟

فقال له صديقه: على بركة الله.

في اليوم التالي اشترى عمر قميصا أخضر وآخر أصفر، وذهب إلى شادي وأهداه القميص، وطلب منه أن يلبسه ودعاه لتناول طعام العشاء في أحد المطاعم قرب البيت.

ارتدى شادي قميصه الأصفر وارتدى عمر قميصه الأخضر وانطلقا، وفي الطريق حاول عمر أن يقنع شادي بترك التشبيح، إلا أنه وجد منه إصرارا على متابعة طريقه حتى يطهر التراب السوري من جميع الإرهابيين بزعمه.

ولما وصل عمر وشادي إلى المفرق، كانت الساعة تشير إلى السابعة تماما كما خطط عمر، أسرع عمر فقطع المفرق، ثم تبعه شادي، ولما وصل إلى منتصف المفرق دوت رصاصة قناص واخترقت عنق شادي فسالت دماؤه على قميصه الأصفر وسقط قتيلا.

نظر إليه عمر وقد فارق الحياة، وقال له: لقد كنت عزيزا علي حبيبا إلى قلبي، ولكن ديني أحب إلي منك، وقد نلت جزاء إجرامك وتعديك على حدود الله وانتهاكك الحرمات.

انتهت.



هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد الرابع عشر

Report Page