حماس التي نُنكِر عليها وحماس التي نَنصُرُها

حماس التي نُنكِر عليها وحماس التي نَنصُرُها

مجلة بلاغ - العدد ٢٤ - شوال ١٤٤٢






الأستاذ: الزبير أبو معاذ الفلسطيني

 

سألني مستغربا: ما الذي استجَدّ فأصبحتَ تناصر حماس وتدعو لها؟!

قلت: رغم أن هذا الحال ليس محمولا على التناقض البتة، بل هو من البديهيات في عقيدتنا، فنصرة المسلمين في مواجهة الكافرين واجب شرعي، ونقيضه الضلال أو النفاق أو المروق من الدين= إلا أنني أود أن أوضح لك أيضا أني ما ندمت على كلمة قلتها إنكارا على حماس، فما أنكرت عليها -ما ظَهَرَ أنهُ باطلٌ- إلا حِسبَةً لله، وما ناصرتُها في الحق الذي معها إلا حِسبَةً لله أيضا؛ كما أرجو، ولو عادت إلى ما ننكره عليها لن أتردد في العودة إلى أمر الله لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كلا حَالَيْ الإنكار أو النصرة فإن المستفيد الأول هي حماس نفسها، فمن أنكر عليها احتسابا لله فلقد صَدَقَها وما غَشَّها وقام بمقتضَى أُخُوَّةِ الإسلام الحقيقية، ومَن ناصَرَها في وقتِ حاجتِها إلى النصرةِ فلقد أدى حقَّها الذي عليه.

إن حماس في مواجهة اليهود الكافرين هي حماس التي نريد، وحماس التي نحب، هي حماس الياسين والرنتيسي والعياش والمقادمة والريان وشحادة والهنود، حماس القتال والرباط والجهاد والاستشهاد والمدافعة والمقاومة، حماس التي يحبها الله؛ هذه هي حماس التي نريد ونحب، وهي التي كنا ولا زلنا ندعوها لتكون كذلك، فما لنا لا نناصرها الآن وقد تقدمت الصفوف ورأيناها في المكان الذي كنا ندعوها للعودة إليه!

إن كل مسلم يدافع أهل الكفر والطغيان هو منا ونحن منه، طالما سَلِمَ إسلامُه وسَلِمَ المسلمون منه.

وحتى لو علمتُ مسبقا أنه بعد انقشاع غبار الحرب بأن حماس ستعود إلى ما كانت تُنهَى عنه= فلن يتغير موقفي منها الآن، سأبقى أدعو لمجاهديها بالحفظ وتصويب الرمي وتسديد الرأي، وأنصرهم بما أستطيع، فلسنا نشهد إلا بما نعلم، ولسنا نعلم الغيب، فلعل بيئة القتال والمدافعة تعيد حماس إلى سابق عهدها؛ بعد أن تعيد قيادة حماس حساباتها، لعل الله أن يُبقِي الحربَ مشتعلةً ليعود المسلمون -بمن فيهم حماس- إلى ربهم؛ ويردنا ويردهم إلى دينه ردا جميلا.

ونحن مع حماس بين حالين، إما أن تعود إلى طريق الدعوة والجهاد بعيدا عن طرق السياسة العقيمة التي ثبت فشل مشروعها= ساعتها ستكون حماس حاملة لواء معركة المسلمين في فلسطين، ونحن جنود تحت رايتها، أو أن تبقى كما هي، ساعتها ستكون مرحلةً يَدفَعُ اللهُ بها أعداءَ الدينِ ويمهِّدُ بها الطريق لمن سيأتي بعدها، والخيار يعود إلى حماس، وعلى أيِّ حالٍ نحن معها في مواجهة اليهود الكافرين والعلمانيين الخونة، فهذه قضية محسومة.

وها نحن نرى تعاطف المسلمين في العالم وفي فلسطين مع حماس في أيام معدودات من القتال، وكيف رفع الله الحركة بقتالها لأشد الناس عداوة للمؤمنين، هذا التعاطف وهذه النصرة وهذا القبول لم تحز حماس عشر معشاره طيلة 15 عاما من العمل السياسي الذي لم يؤذ اليهود ولو بمقدار وخز إبرة! بل كانت شعبية حماس داخل فلسطين في تراجع مستمر، خاصة في قطاع غزة، وكانت يهود تزداد تغولا وهضما لحقوق المسلمين في فلسطين، لا يردعها رادع، حتى وصلت إلى طرد المقدسيين علانية من بيوتهم في حي الشيخ جراح في القدس، ولقد قدر الله أن تكون هذه هي الشرارة، ومن أقدار الله أيضا أنها تزامنت مع إلغاء الانتخابات الفلسطينية التي لو بقيت لربما ما وصلنا إلى هذه الانتفاضة؛ لأن حماس والفصائل ذهبت إلى المعركة بعد أن وصلت إلى قناعة أنه لم يعد هناك ما نخسره، ولو أن محمود عباس لم يلغ الانتخابات لربما بقي الجميع مراهنا على نتائج إجرائها باعتبارها "المدخل السياسي لمواجهة الاحتلال"! هذا الوهم سقط بإلغاء الانتخابات بفضل الله، وَهْمٌ سياسيّ مستمَدٌّ مِنْ وَهْمِ الديمقراطية، كلها أوهام يتعلق بها من تعلق؛ بعيدا عن الطريق القويم الوحيد لاسترداد الحقوق، وهو طريق الجهاد في سبيل الله والقتال والمدافعة والمغالبة، ولقد جاءت معركة اليوم الدائرة في فلسطين لتعيد الأمور إلى نصابها، وتعيد القطار فوق قضبانه، وتؤكد أن الحق لا يسترد بغير القوة والبأس، وأن الأعداء يتألمون فقط عندما تلمع في وجوههم المُسْوَدَّة بوارق السيوف.

إننا اليوم نشهد مرحلة جديدة، تنتفض فلسطين كلها في وجه يهود، من شمالها إلى جنوبها، قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وأراضي الــ48، وهذا لم يحدث من قبل، ورأس الحربة في هذه المعركة كتائب عز الدين القسام، وانكسارهم أو تراجعهم انتهاء لهذه الفرصة التاريخية؛ التي لو حرص المسلمون في فلسطين على إبقاء جذوتها مشتعلة فإن ما بعدها لن يكون كما قبلها، هذه الهبة الشاملة والانتفاضة الكبيرة آذت يهود جدا، فلقد فتحت عليهم أبواب الجحيم من كل مكان في فلسطين، وأظهرت عجز دولة اليهود أمام أهل فلسطين عندما بدأوا في التململ، فكيف لو ثبتت هذه الانتفاضة واستعرت وزاد اشتعالها؟ بل كيف لو تحركت الشعوب في أنظمة الطوق الأربعة حول دولة اليهود؟ بل كيف لو تحركت أمة الإسلام؟ إن هذه الدولة المسخ دولة كرتونية هشة، لو خُلِّيَ بين أهل فلسطين فقط وبإمكانياتهم البسيطة وبين هذه الدويلة فلن تَبقَى على وجه الأرض شهرا آخر، لكن أعداءنا نجحوا في زراعة أنظمة وحكومات تحمي هذه الدويلة اللعينة، بل زرعوا جسما سرطانيا داخل فلسطين أسموه "السلطة الفلسطينية" وهي والله سلطة علمانية صهيونية مُتَوَلِّيَةٌ لليهود، لا غاية من وجودها إلا حماية دويلة اليهود المسخ، لذا فإن اشتعال المعركة مع اليهود في الضفة الغربية يعد أخطر مناطق الصراع داخل فلسطين، فالضفة تَصلُح للعمل الجهادي؛ وفيها مِن مقومات القتال وحرب العصابات ما يؤهلها لِتَكُون مُحقِّقَةً للإثخان في يهود، حيث إنّ فيها مِنَ التضاريس الطبيعية الجبلية التي تُمكِّن المقاتلين مِنَ العمل والحركة والاختباء والمباغتة، ناهيك عن توزيع السكان على مساحةٍ جغرافيّةٍ واسعة، إضافةً إلى أَنّ الاحتكاك مع اليهود هناك احتكاكٌ مباشر؛ مما يُسَهِّل عملية استهدافِهِم وإيقاع الخسائر فيهم، والعائق الوحيد هي سلطة الاحتلال العلماني؛ الفلسطينية اسما الصهيونية جوهرا وعملا، والتي تُرِكَت في الضفة لأجل أن تكون هذا العائق، ولن يُهْدَم المبنى الخرب الذي تجب إزالته إلا بهدم سورِه الذي يحميه.

والخشية في هذه المعركة الدائرة الآن أن تَبقَى غزة لوحدها، وتهدأ القدس، ومناطق الــ48 في الداخل المحتل، والضفة الغربية، فهذا أخطر سيناريو، وهو متوقع للأسف بصورة أو بأخرى، فلقد حدث سابقا، واستفرد اليهود بقطاع غزة، لو حدث هذا فقد يتم إنهاء هذه الانتفاضة ولو مرحليا؛ لذا فإن الدعوات لأهل الضفة الغربية بالنهوض المؤثر يجب أن تستمر، والدعاء لأهل غزة والقدس بالصبر يجب أن يكون النصيب الأكبر من دعاء المسلمين، فالعدو اليهودي يتألم الآن بشدة، وهو يضغط على المقاتلين باستهداف المدنيين والعزل والمرافق العامة والأبراج السكنية، في محاولة للوصول إلى اتفاق تهدئة دون شروط تفرضها الفصائل الفلسطينية تحديدا حماس، وأهم عوامل صبر غزة بقاء بقية فلسطين معها في المواجهة، فاللهم زدها اشتعالا على يهود واجعلها بردا وسلاما على المسلمين في فلسطين.

ومما يجدر التطرق إليه احتجاجُ بعض إخواننا في حماس بأن هذه المعركة مع يهود لم تكن لتكون بحالها هذا لولا تجربة حماس السياسية التي أعطت الفرصة للكتائب العسكرية للإعداد ومراكمة السلاح والخبرات! وهذا تصور مغلوط، فإن الإعداد الذي حصل لكتائب القسام هو ثمرة الحسم العسكري الذي قاموا به عام 2007 عندما طردوا زنادقة العلمانية من قطاع غزة، أما تجربة حماس السياسية فهي نتيجة للحسم العسكري مثل تجربتها العسكرية التي تَلَتْه وليست سببا، فنجحت التجربة العسكرية لأنها استغلال صحيح للاستقرار النسبي الذي تحصلت عليه حماس؛ حيث انطلقوا من فهم سليم لما يوافق طبيعة غزة التي تختلف عن طبيعة الضفة، فقطاع غزة يَفتقِد للتضاريس الطبيعية بجميع أشكالها، إضافةً إلى أَنّ القطاع مُحاصَرٌ مِن جميع الجهات ولا يوجد مَنَافِذٌ للدعم اللوجستي، كما أَنّه يُعتَبَرُ مِن أكثرِ المناطق في العالم اكتظاظًا مِن ناحية الكثافة السكانية؛ نظرا لصغر مساحته الجغرافية، والتي تُسَهِّل أيضا على العدو اليهودي تغطية القطاع مِنَ الجو؛ سواء مِن ناحية الرصد والاستطلاع والمراقبة أو من ناحية الهجوم والاستهداف، ناهيك عن تَحَصُّن اليهود خلف خطوط المواجهة وانعدام الاحتكاك المباشر معهم مما يَجعَل استهدافَهُم عمليَّةً شديدةَ الصعوبة وغير مضمونةِ النتائج سواء مِن جهة العمل نفسه أو مِن جهة رَدَّة فِعل اليهود على هذا العمل، لذا فقطاع غزة لا يَصلُح للعمل الجهادي المتواصل، ما يجعله متقوقعًا داخلَ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ فقط؛ نظرا لطبيعة ظروفه، وأقصى ما يُمكِن تَحقيقُه في قتال اليهود -مِن داخل قطاع غزة دُون حربٍ- لا يَتجاوزُ سَقفَ المُشَاغَلة؛ ولا يَرتَقِي إلى مرحلة الإثخان وتحقيق النكاية، وهذا ما استوعبته كتائب القسام فعمدت إلى استراتيجية تناسب هذا الواقع. أما التجربة السياسية لحركة حماس فلقد فشلت في استغلال ما تحصلوا عليه من استقرار في غزة لأنه استغلالٌ مُتَفَلِّتٌ من قيود الشرع، ومقارَنةٌ بسيطةٌ بين الأثر شديد السوء على الحاضنة الشعبية بسبب تجربة حماس السياسية رغم مرور سنوات طويلة، وبين الاحتضان الشعبي الجارف لكتائب القسام خلال أيام قليلة في هذه الحرب المشتعلة= يعطينا تقييما واضحا لكلا التجربتين العسكرية والسياسية، ولو أن الساسة اتقوا الله ما استطاعوا في سياستهم لرأينا أضعاف ما نراه اليوم من إنجاز عسكري، ذلك أن العطاء الإلهي يتنزل بقدر الاتباع، فإن كان عطاء الله لمقاتلي القسام كما نراه اليوم فكيف لو اجتمع مع صبر العسكر على الإعداد= تقوى الساسة في سياستهم ورَدِّها إلى شرع الله ما استطاعوا؟ بالتأكيد أن العطاء الإلهي سيكون أكبر بإذن الله تعالى.

ولا ننسى أن نُذَكِّرَ إخواننا في حماس أن هذا السلاح بفضل الله وحده، وهو الذي سخر إيران الرافضية لدعمكم، فهي لم تدعمكم إلا ولها مآربها وأهدافها والتي ليس من ضمنها ولا في أدناها تحرير فلسطين، بل أهدافها توسعية احتلالية في بلاد المسلمين كأهداف اليهود في فلسطين، فأين هي الآن من المعركة الدائرة؟! أين حزبها اللبناني الذي يزعم دجاله أنهم يهدفون لتحرير فلسطين؟! أين صواريخهم لمساندة الفلسطينيين ومن يعتبرونهم "حلفاءهم" في غزة؟! إن هؤلاء الرافضة لن يطلقوا رصاصة لأجل فلسطين، بل من مصلحتهم بقاء الاحتلال اليهودي في فلسطين لكي يستمر استغلال قضيتها كغطاء عاطفي يُخْفُون به وجه مشروعهم التوسعي الاحتلالي الدميم في الشام والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية، فلا شَكَر الله لهم سعيا، ولا أخلف عليهم مالا، فهو مال الله أراد سبحانه أن يُسَخِّر الرافضة ليصل إلى غزة المحاصرة، كما سخر لنا الدواب لنستوي على ظهورها.

أخيرا، إن الأمانة ثقيلة يا قيادة حماس، فأنتم رأس الحربة في أبرز قضايا الأمة، بل قضية فلسطين بالنسبة لأمة الإسلام ليست كباقي قضاياها، فهي أقرب وألصق بالقلوب، وتضج الشعوب المسلمة بالتعاطف معها لأسباب كثيرة، منها أن العدو فيها مُجْمَعٌ على عداوته، وهي قضية قديمة لامست قلوب أجيال متعاقبة، كما أن رمزية المسجد الأقصى تلعب دورا محوريا، فأحسنوا يا قادة حماس أحسن الله إليكم، واستغلوا مركزية قضيتكم أفضل استغلال، واستحضروا عظم الأمانة الملقاة على ظهوركم، واجعلوا الجهاد والقتال والمقاومة سبيلكم الأول لا خيارا من الخيارات تلجؤون إليه حين الاضطرار، فوالله بهذا تنصرون، وليكن حاديكم موقف الدكتور عبد العزيز الرنتيسي تقبله الله عندما كان يواجه الضغوط على حركته فيخرج على رؤوس الأشهاد حاملا سلاحه وهو ينادي بأعلى صوته (هذا هو الطريق هذا هو الطريق) لِيُسْمِعَهَا لكل من يريد منه أن ينحرف عن هذا الطريق، ولكي يربي جيلا يَرْقُب مواقفه وتصريحاته، فلن تنفعكم هذه الألاعيب السياسية، فكل من حولكم يمكر بكم، ولا يوجد لكم حليف حقيقي سوى الشعوب المسلمة والجماعات الإسلامية الصادقة.


وللحديث بقية إن كان في العمر بقية..

إن أراد الله..


هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢ هـ

Report Page