جَيرُوسكُوب

جَيرُوسكُوب

مجلة بلاغ العدد ٤٠ - صفر ١٤٤٤






الأستاذ: أبو يحيى الشامي

المِدْوَار، هذه الكلمة أكثر تعريبٍ مستعملٍ للجيروسكوب، لكنه مغمورٌ غير حاضرٍ في اللغة الدارجة، إذ إن كلمة "giroscope" وأصلها اليوناني: منظار = scope الدائرة = giros، ثبتت في أذهان الناس لتعبر عن الجهاز الذي يتكون من قرصٍ يدور حول محورٍ، يحافظ على التوازن والاستقرار والاتجاه بالإفادة من الجاذبية من خلال حركة السرعة الزَّاوِيَّةِ.

 

ليس مقالاً فيزيائياً، وإن الفيزياء علمٌ مبهرٌ وعظيمُ الفائدة، لكنها مقدمةٌ تعريفيَّةٌ لا بد منها، ولا بد من ذكر تطبيقات الجيروسكوب الكثيرة، التي تعتمد عليه في التوازن والاستقرار وتحديد الاتجاه، فهو يستعمل في الطائرات والمراكب الفضائية والمعدات والمركبات العسكرية، مثل الدبابة التي كانت تعاني دوران البرج واضطراب سبطانته مع دورانها واضطرابها عند الحركة، فأصبحت بعد إضافة الجيروسكوب تتحرك صعوداً ونزولاً ودوراناً، وسبطانتها موجهة باتجاه الهدف بصورة يعلمها العسكريون، وهذا الجهاز بشكلٍ أصغرَ وأدقَّ يدخل في صناعة الهواتف الحديثة التي نحملها اليوم، وله تطبيقاتٌ واستعمالاتٌ يصعب إحصاؤها.

 

جهاز الجيروسكوب المصنوع هذا يشبه جهازاً طبيعياً يُمَكِّنُ الصقر من تثبيت رأسه عند تحرك جسمه وهو يناور في الجو أو تدفعه الريح، مما يبقي الرأس مستقراً، ويبقي النظر متجهاً باتجاه الهدف لا يحيد عنه، في طريقة عجيبة تبهر المشاهد، سبحان الله، وإن الجهاز الذي يحقق التوازن لجسم الإنسان هو الدِهليز في الأذن الوسطى، وبغيره أو باعتلاله يختل التوزان ولا يستطيع الإنسان الوقوف ولا التركيز.

 

وفي علم الاجتماع، لا بد من وجود جهازٍ أو كتلةٍ تحقِّق التوازن والاستقرار وتحفظ الاتجاه لجسم الأمة أو الشعب، فكما أن لكل جزءٍ من أي جسمٍ حيٍّ أو شبهِ حيٍّ وظيفة يؤديها لخدمة هذا الجسم، فإن هذه الوظيفة الأهم لا تستطيع أجزاء المجتمع الأخرى تأديتها، بل لا تستطيع تأدية وظائفها هي عند غياب هذا الجزء حيث يختلُّ التوازن وينعدم الاستقرار.

 

عند ابن خلدون هذا الجهاز أو الكيان هو الدولة بمعنى السلطة الحاكمة، والجاذبية التي يعتمد عليها هي العصبية، وتتعدد العصبيات واتجاهاتها بتعدد الأمم وموروثها الفكري، وقبل قيام الدولة أو حال غيابها تحلُّ محلها نخبةٌ تؤدي بعض وظائفها وتسعى لجمع أجزاء المجتمع، إنه اعتصام بحبلٍ قد يكون حبل الله كما كان الحال في صدر الإسلام ومحطاتٍ مشرقةٍ من تاريخه، وعند الطائفة المنصورة إلى قيام السّاعة، أو بحبلٍ آخر خليطاً كان أو خالصاً، والعصبيةُ تُنشئ هذا الاعتصام أو تنشأ عنه.

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم بتثبيتٍ وتوفيقٍ من الله عزَّ وجلَّ سبَبَ استقرار الأمة على المبدأ والهدف، وعلى الوسيلة الطَّيِّبةِ التي تتناسب معهما وتصل بينهما، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم : 30]، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود : 112]، {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء : 74]، وكذا فعل الخلفاء الراشدون ومن رَشَدَ بعدهم، حتى إن الواحد منهم ليثبت على الحق ولو تحركت الأمة جميعاً واختلفت الأقوال والآراء والأهواء، إمامهم رسولهم الذي أقسم أن لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ليترك الإسلام والدعوة إليه، لم يتركه إلا بأمرٍ من الله أو يهلك دونه، أي أن جاذبية المبدأ الأساس أكبر وأعظم من كل المغريات والمعطيات والجاذبيات، وبهذا يكون التوازن والاستقرار، ولقد شهدت بهذا مواقف عظيمةٌ معروفةٌ مشهودةٌ، أبطالها أفراداً أو جماعةً كان لهم دور الجيروسكوب في جسم الأمة المسلمة.

 

ثم تمزقت الأمة بفعل أعدائها وبعوامل ذاتيةٍ كثيرةٍ أهمها غياب المرجعية، وأهم نتائجها استمرار غياب المرجعية، حيث لا يلوي المسلمون على مُنتَخَبٍ أو نُخبةٍ تستطيع تحقيق التوازن والاستقرار والتوجيه بربطهم بالجاذبية الأقوى العقيدة الإسلامية، بل وعجزت جُلُّ أجزاء الأمة عن تحقيقه بمعزلٍ عن الأجزاء الأخرى، لأنها محكومةٌ بحكوماتٍ تابعةٍ للأعداء، أو مثقلةٌ بموروثِ جاذبياتٍ مُضِلةٍ تُفَتِّتُ الجزء إلى أجزاءٍ وتحرمه نتيجة التَّحرُّرِ من هذه الحكومات العميلة.

 

ما حدث في الدول العربية بعد الثورات عام 2011 خير دليلٍ؛ حيث لم تجتمع شعوب هذه الأجزاء حول كيانٍ أو جهازٍ يحقق التوازن والاستقرار والتركيز على الهدف، بل تشظَّتْ في اتجاهاتٍ كثيرةٍ بعامل جاذبياتٍ كثيرةٍ خارجيةٍ وداخليةٍ، ومن أهمِّ الأمثلة الثورة السورية في الشام، حيث كان لغياب ال"جيروسكوب" فيها الدور الأكبر في تراجع الثورة وضياع مكتسباتها الجيوسياسية، لكنها بقيت محافظةً بطريقةٍ جَمْعِيَّةٍ على مبادئها، رغم قفز الكثيرين ممن ادعوا الانتماء إليها إلى اتجاهاتٍ مصلحيةٍ جزئيةٍ أو شخصيةٍ تُخِلُّ بها وتُشتِّتُ توجهها وتكاد تقضي عليها.

 

لا يستطيع أحدٌ أن ينكر هوية الثورة السورية الإسلامية، هذا واضحٌ لا مراء فيه، فنسبة واحدٍ في المائة (1 ٪) التي أيدت الثورة من غير المسلمين لا تجعلها ثورة عَلمانية أو تعددية، وكونُ الثورة إسلاميةً لا يبخس غيرها حقهم ولا يؤدي إلى ظلمهم، ففي مبادئ الإسلام ما ينصف الناس ويعطي كل ذي حق حقه، لكن هل استطاعت الثورة إيجاد حالة التوازن والاستقرار والتركيز على الهدف بعد هذه السنوات التي مضت من عمرها، وما هو الهدف الجامع للتسعة والتسعين في المائة (99 ٪) من أبنائها؟.

 

يعلم كل أبناء الثورة السورية والمتابعون، وأبناء الحالات المشابهة على امتداد جغرافيا الأمة، أن سبب الاحتواء والانكفاء هو التبعيات الجزئية والمصالح الموهومة الجزئية، التي تتخذ غايةً غير شرعيةٍ، أو تعتمد وسيلةً غير شرعيةٍ بناءً على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وبذلك ينفرط العقد وينحلُّ رابط القوة الذي يجمعهم، وتغيب المرجعية الجامعة وتُحارَبُ إن وجدت، لأنها تدعو إلى الجاذبية الإسلامية التي تعيب كل الجاذبيات الأخرى وتقضي عليها بالتدريج، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى به من أبناء الأمة.

 

مبادئُ ثابتةٌ، وهدفٌ واضحٌ، ووسائلُ شرعيةٌ نظيفةٌ، هذا ما يطلبه عددٌ كبيرٌ من أبناء الأمة حتى يتخذوا من ينادي بها ويصدق في تبنيها رائداً أو قائداً كي يتبعوه، وهم منصورون بنصر الله عندما يعملون بهديه وما يرضى، تثبت ذلك أمثلةٌ قريبةٌ منها أفغانستان حديثاً، فحتى إن تحالفت الدنيا ضدهم أو حاولت فتنتهم وتَنَازُعَهُم لن تفلح، طالما أن الجاذبية التي اعتمدوها لاستقرارهم هي الأقوى، ولقد أثبت التاريخ أن جاذبية العقيدة والشريعة الإسلامية أقوى وأصدقُ وأثبتُ وأوحدُ من الجاذبيات الأخرى، إن كانت قوميةً أو وطنيةً أو مناطقيةً أو حزبيةً، مصلحيةً ذاتيةً أو تبعيةً.

 

الجيروسكوب يجب أن يكون متصلاً بالجسم الذي يحتويه، يتحسس الجسم، والجسم يتحسسه، يدور بسرعةٍ زاوِيَّةٍ هي سبب بقائه متوازناً، وهذا يعني أن الجيروسكوب الاجتماعي عليه أن يتصل بأمتهِ مباشرة، وأن يدور في واقعها ليعلم تفاصيله كلها ويتصرف فيها بما يتناسب مع جاذبية المبدأ، فيتزن الجسم بتوازنه، ومهما تقاذفت هذا الجسم الاجتماعي أمواجُ ورياح الفتن والمحن ومكرُ الأعداء وضرباتهم، يبقى ثابتاً محافظاً على الاتجاه والهدف، هذا الهدفُ الذي يستحق العمل لأجله والتضحيةَ والفداءَ هو سبيل الله مهما تعددت وتزينت وتبهرجت السُّبُل.

 

إن في قصة بني إسرائيل مع طالوت لعبرةً تثبت الفكرة التي في هذا المقال، فاقرأوها في سورة البقرة من القرآن الكريم، والحمد لله رب العالمين.







هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٠ صفر ١٤٤٤

Report Page