جوع - الجزء السادس

جوع - الجزء السادس

Alloush

فهرس الأجزاء السابقة - اضغط هنا.

لم أعد بحاجة إلى منبه ليوقظني في كلّ يوم، أفتح عيوني قبل حلول الفجر بدقائق وأكون مستلقياً على سرير جدي وكأنني عدت لتوّي من رحلة زمنية غارقة بالتفاصيل الغير مفهومة. أستمر بالاستلقاء دون حراك وأنا أتأمل سقف الحجرة. 

أنظرنحو النافذة وهناك أجد طيفه وهو يحييني بكأسه!.

أنهض عن السرير وأبدأ روتين الاستيقاظ اليومي.

أقوم بزرزة قميصي أمام المرآة وأراقب نفسي، أبدو كمحارب عظيم أسطوري، او هكذا يتهيأ لي، أشعر بقوّة غريبة تدخل أعماقي وجذوري، كلّ هذا من مجرد ارتداء قميص جميل يبرز مفاتن وتفاصيل جسدك.

وميض لمع في زاوية الغرفة مع ارتجاج متتالي عميق، لم أعط بال للموضوع، لكن سرعان ما التفتت وحدقت في الجوال وهو يرن بوضعه الصامت!.

كان عبارة رقم خاص على الشاشة!، هل أرد؟!. هل هو المقصود أم رقم آخر!.

الخطوات التالية ستكون مصيرية بالنسبة لي، الكلام الذي سيدور في المحادثة سيكون من أهم ما سأقوله في حياتي!، لقد تدربت مئات المرات على هذه اللحظة، أعدت الحديث الذي يمكن أن يحدث بكامل السيناريوهات الممكنة، من مجرد اقفال الخط أو عدم الحديث مطلقاً إلى الشجار أو الحديث العقلاني.

ماذا يمكن أن يحدث بمجرد أن أضغط فتح المكالمة، ما بعد المكالمة لن يكون أبداً مثل ما قبلها، هذه ليست مجرد مكالمة هاتفية عابرة، الشخص على الطرف الآخر كان مسؤول بشكل أو بآخر عن خطفي واعتقالي طوال شهور!.

حركت اصبعي باتجاه الرد لكن شيء ما دفعني لأرفض المكالمة، حركت يدي بكل ثقة وضغطت على رفض المكالمة.

تابعت ترتيب هندامي وخرجت من المنزل، نظرت إلى الفراغ فوجدت خيال جدي وهو يحييني مجدداً رافعاً كأسه. حييته بدوري وخرجت من المنزل.

قررت اعادة السير نحو ضواحي المدينة ومنه إلى الريف القريب حيث كنت محتجر، ومع كل خطوة أقترب فيها أشعر بقوّة عظيمة كقطع الفحم حين رميها في فرن المرجل، لتتأجج النار وتسطع من نوافذه المحكمة الاغلاق.

مضى وقت طويل وأنا أسير دون تعب، أراقب من حولي حركة المدينة، الحركة خفيفة، هناك بوادر عملية عسكرية ضخمة للقوات الحكومية باتجاه الريف الغربي، صوت الطيران لا يفارق السماء، وعند اقترابك من الأحياء الغربية تلمح مجنزرات وعربات مدرعة وجنود يتجمعون أو يستريحون ايذاناً بساعة "الصفر".

أتابع سيري وأقترب من حي العشوائيات والنهار على وشك الانتهاء، أراقب باهتمام الأحياء المدمرة والتي تشير بوضوح إلى حجم المعارك التي مرت من هنا وشراستها، صمتٌ رهيب خلا السيارات العابرة على الطريق الرئيسي، بعض من البيوت تم ترميمها، أتوقف للحظة أحاول تذكر الطريق، أستغرب عند هروبي وعودتي لم أشعر بكلّ هذه المسافة.

أستدل على الطريق من الجديد وأتابع سيري بكلّ قوة وعزيمة واصرار، لا أدري ماذا ينتظرني، أريد العودة حيث كانت أضعف مواقفي وأقواها، أريد العودة والجلوس حيث كنت أجلس لا لشيء سوى الجلوس، أشعر بقوّة غامضة تجذبني.

مضت أكثر من ساعتين وأنا أسير عبر طرقات المدينة، بضع خطوات تفصلني عن المنزل، هناك عند زاوية الشارع، أتابع السير وأخيراً أقترب بهدوء وأرقب بصمت تلّة من الركام، تم تدمير البناء عن بكرة أبيه، ومسحه من الوجود.

أراقب تفاصيل الركام لأستدل على أيّ شيء يوحي بهوية المكان لكن لا شيء.

أتلفت من حولي وأجد رجل كهل يجلس قبالة بسطة من المأكولات والمشروبات في هذه البقعة المتهالكة من "الحضارة"!.

أسأله متى تم هدم هذا البناء؟، يفتح عيونه بشكل واسع ويتفاجىء من سؤالي، فيتلو علي اجابة كأنها جاهزة، البناء مهدوم أثناء الحرب كحال جميع الأبنية.

أقبض على أصابعي وأعصرها بغضب، أشعر بهزيمة عظيمة، بنفحة من الهواء تطفىء اللهب في داخلي، أشعر بكلّ القوّة والنفوذ يتلاشى من حولي.

أعود أدراجي من حيث أتيت مقترباً من الطريق الرئيسي مشيراً لأي سيارة تقترب لعله يحملني معه باتجاه وسط المدينة، تتوقف سيارة شحن، ويشير لي لأن أصعد في الخلف، أصعد دون مبالاة، أكاد أفقد الوعي، الغضب أعمى بصري، تمض بضع دقائق والشاحنة تأكل الطريق بسرعة، صوت السائق وهو يناد علي بأنني وصلت وجهتي، نزلت ودفعت له قدر من المال، زمن النخوة انتهى كل شيء بمقابل.

تابعت المسير وأنا أشعر بالارهاق الشديد، دخلت المنزل، توجهت الغرفة فتحت جوال خاطفي ووضعته أمامي، قرّبت أحد الكراسي فككت أزرار قميصي، وجلست أنتظر رنينه مجدداً. مضت الدقائق ببطىء، وأنا أتأمل شاشته السوداء، شعرت بألم في رقبتي، فارتميت على السرير وأنا أتأمل، أفتح عيوني أتأمل الشاشة وأغلقها لأرتاح قليلاً، حتى انتشر الخدر في أوصالي، واستسلمت للنوم.

استيقظت في اليوم التالي على صوت رنين عميق، استنفرت واستيقظت بسرعة متأملاً الشاشة، لكنها كانت سوداء، الرنين لم يكن منه بل من جوالي الشخصي، أمسكته ومسحت الشاشة لأرد، كانت والدتي، تطمئن علي، وتصر على أن آت إليها في المهجر، في البداية كانت الفكرة تعجبني، لكن في كلّ يوم أشعر أنني أمام مسؤولية عجيبة، أشعر بأنني جزء من مهمة ضخمة لا أستطيع تجاهلها والسير دون اكمالها.

أغلقت الهاتف وذهبت لأعدّ قليلاً من القهوة، اليوم يصل أخي من دمشق، أتساءل ان كان يستطيع الاقامة هنا دون البيانو. جميع أغراضي من منزلنا قام أخي بتوضيبها في صناديق كرتونية، أخرجت صندوقي وفرزت الأغراض التي فيه، ثم أخذت جزء من خزائن جدي ووضعت فيها أغراضي، لا أعتقد أن جدي سيعارض!.

جدي...

أحياناً أشعر بوجوده دون أن يشكل ذلك مصدر استغراب لي، مرة سمعت صوت سعال جدي وهو يعمل في حديقة المنزل كعادته، لم أعر ذلك أي اهتمام، استمر السعال بصوت واضح، كان عقلي معتاداً على فكرة وجوده إلى درجة لم يقاطع هذا الوجود مع وفاته، حينها تنبهت إلى أنّ جدي متوفي وأنّه من المستحيل أن يكون هو من يسعل. خرجت مرتعداً وعلى الفور إلى الحديقة وأنا أبحث عن مصدر السعال دون جدوى، انتابتني قشعريرة وحرارة شديدة حين أدركت التناقض الذي كنت فيه. عدت إلى الداخل حينها وأنا أحاول تمالك نفسي.

حين فرزت الأغراض تنبهت أنّ صورة أسرار تم وضعها بعناية وهذا يعني أنّ أخي انتبه إلى وجودها في خزانتي وهو على حد علمه أنني تجاوزت تلك المرحلة، احترمت بحق عنايته في توضيب أغراضي، لقد وضب أغراضي بطريقة هو مؤمن حقاً بعودتي. شعرت بالسعادة لذلك، وكم تمنيت أن يعود ويعزف على البيانو خاصته وأعود لأستنشق ذكريات أيامي الجميلة مع أسرار. رحمها الله.

اعتدت على غسل وجهي بالماء الساخن، وبالصابون العادي، وفي كلّ مرة أقوم بذلك يأتيني صوتها إلى ضرورة عدم استخدام الصابون العادي لأنه يؤذي البشرة، وعدم استخدام الماء الساخن لأنه يقوم بتفتيح مسام البشرة. تعرفت عليها لمدة قصيرة كانت كلماتها كافية لأن تمض معي حتى آخر يوم من عمري.

مع هيفين، الوضع مختلف، لم أشعر يوماً باهتمامها بتفاصيل حياتي اليومية، هي لا تعلق مثلاً على طريقتي في قص أظافيري وطقوسها، تكون مشغولة دائماً بشيء آخر، لكن لها تأثيرها الخاص، ميولي نحوها تفجرت جسدياً أكثر منها عاطفياً، هكذا أقول لنفسي دائماً، تراها تسير نحو هدف خاص بها دون سواه.

في مكالماتي الأخيرة مع والدتي أوضحت أنها لن تتمكن من ارسال المعونات المادية كما كانت في السابق اذ ارتفعت تكاليف المعيشة لديهم، وخيرتني بين أن أجد عملاً أو أنهي كل شيء وآتي اليهم.

اخترت البحث عن عمل، وماجد عبر علاقاته الواسعة دبر لي سابقاً وظيفة عامل في احدى المطاعم لدى احدى أكبر وأغنى المنشآت السياحية، تمتاز بأنها متوسطة المدينة ويرتادها نخبة المجتمع، وهي تشتمل على مرافق سياحية متعددة. ترددت أكثر من مرة بالذهاب إلى هناك، لكن اليوم سأخطره بموافقتي ليعيد الاتصال بهم ويتوسط لي.

صنعت قهوتي وجلست قبالة اللوحة التي تحمل تلك الرموز وأنا أحاول الربط بين تلك الأرقام وما هيتها، تجولت في الحديقة قليلاً حتى رد علي ماجد باتصال الموافقة. قال لي بأن أسرع لأن المديرة قد تغادر في أي لحظة.

اخترت ملابس مرتبة بسيطة وذهبت إلى المكان المعروف، هناك أدخلوني مباشرة إلى مكتب المديرة، ومكتبها يحتل جزء هام ورئيسي من المطعم، مكتبها من الخشب الغامق الفاخر - لا أدري حقيقة ما هو نوع الخشب -، وتعتلي كرسيها الدوّار وتدخن بطريقة مستفزة للغاية، ومن خلفها جدار مزين بمئات الصور والأعلام مع مختلف المسؤولين والشخصيات المرموقة! كما يبدو لي على الأقل.

لم تطل المقابلة أكثر من بضعة دقائق، لم تسألني فيها عن ماهية دراستي ولا عن وضعي الاجتماعي، كان سؤال وجواب، هل يمكنك العمل من الساعة كذا إلى الساعة كذا، هل تقبل بالراتب الفلاني!. أجبت بنعم وكان العمل من نصيبي.

لم يكن العمل من النوع الصعب، كان علي حفظ أنواع الطلبات ومميزاتها وتسجيلها وجلبها للزبائن، مدربتي فتاة تصغرني ببضع سنوات، ويبدو أنها متحفظة على توظيفي بسبب تقاسم البقشيش، وبناء على كلامها هم ليسوا بحاجة إلى عامل ولا تدري كيف "المعلمة" اقتنعت بي.

عملت بضع ساعات حتى انتهت نوبتي، أثناء ذلك كنت أرنو إلى مكتب "المعلمة" وهو ممتلىء بشتى أنواع الضيوف!، يقهقهون ويضحكون وهم يشربون القهوة!، هل هذا مكتب مطعم أم ماذا!.

حينما هممت بخلع القميص المخصص للمطعم انتبهت إلى خروج المديرة نحو المطعم وبدأت تصيح كالمجنونة، وقفت بجانبي الفتاة التي تصغرني وقال لا تقلق، هي هكذا دائماً لديها نوبتين من الصراخ يومياً، لكي تشعر بأنها تدير المكان.

استغربت صراحة هذه الفتاة، وعدم خوفها بأن أنقل الكلام للمديرة!، أعجبت بصراحتها، ربما تكون صديقة حقيقية لاحقاً.

خرجت من المطعم وأنا أرنو إليه ممتلىء عن بكرة أبيه، استغربت حقاً. هل فعلاً ما يقدمه من طعام على مستوى جيد!، لقد اطلعت على لائحة الأسعار وكأنت غالية بصراحة، استغربت كمّ هذه الأفواه وعددها وهي تقبل على طلب الطعام مهما بلغ ثمنه!.

عدت سيراً على الأقدام، قلت بنفسي لا بأس بهذه التجربة، جيدة وأنا بحاجة إليها. وأنا أسير، اقتربت من احدى الأبنية، ودققت فيها. لا شيء مميز، مجرد بناء بين عدة أبنية، وهي من الأبنية التي كانت احدى نتائج ترجماتنا أنا وماجد للأرقام التي استخرجناها من اللوحة. اذ اعتبرنا كل رقم ظهر هو احداثية قمنا بادخاله على الخريطة وظهر لنا دبوس، ذهبنا إلى ذلك الدبوس وكان أمامنا بناء عادي جداً. وما من وسيلة أخرى لربط هذه الأرقام مع بعضها.

ماجد اقترح رسم دوائر مركزها الأبنية وتقاطعها قد تكون نقاط مهمة، لكن ذلك يعني مئات النقاط ومئات من عمليات البحث المجهدة في مدينة ضخمة.

ومع تفكيري هذا اهتزت الأرض لرشقة صاروخية غرب المدينة، يبدو أن المعركة الحاسمة قد اقتربت.

عدت إلى منزل جدي، وفتحت النوافذ ليدخل بعض من نور المساء، اذ لا كهرباء مستمرة. ذهبت إلى المطبخ لاعداد وجبة ما لسد جوعي. تركت هاتفي الشخصي على حافة النافذة، وهاتف خاطفي أخرجته وتأكدت من أنه مشحون ولا جديد فيه.

كنت أفكر في تلك المديرة، وهي تقهقه وتضحك عالياً دون أي اعتبار للزبائن في مكتبها. وتلك الفتاة الصغيرة التي انتقدتها أمامي دون خوف أو وجل. ترى هل أستمر أم أنسحب، لكنني بحاجة إلى النقود في هذه الفترة.

قرع الباب بطرقتين خفيفتين، مترددتين، ظننت أنه أخي لكنه يملك مفاتيح المنزل وليس بحاجة لقرع الباب، شعرت بنبضات قلبي وهي تتسارع، لا ادري لماذا شعرت بالخوف، مع انه لو كان هناك من سبب للخوف فلا داعي له، فلو كان شخص يرغب بأذيتي لما قرع الباب!.

ذكرني ذلك بحديث لصديق لي في المغترب، قال لي قبل أن يغترب إن قُرع الباب في وقت غير متوقع، الجميع يستنفر قلقاً، أمّا هنا في مغتربه فعلى الأغلب يكون بائع الحليب.

لكنني لا أشرب الحليب ولم أطلبه!.

اقتربت من الباب بهدوء وصحت بصوت جهوري خشن: مين!، جاءني صوتها اللطيف من الخلف، أنا!. افتح.

فتحت الباب بسرعة وكانت أمامي!. لم أصدق.

يتبع...

Report Page