جوع - الجزء السابع

جوع - الجزء السابع

Alloush

كانت هي أمامي ولكن بقصة شعر مختلفة، هذه المرة كان شعرها مسترسل بالكاد يصل كتفيها النحيلين. كنت أقف مذهولاً أمام الباب وهي أمامي تنظر إليّ بشغفها المعتاد، كنت مرتدياً مريول المطبخ وبيدي سكين التقطيع.

أشارت لي ممازحةً هل تريد ذبحي أم دعوتي للدخول؟.

مع أنّني أدرك أنها تمزح معي في موضوع ذبحها، لكن في قرارة نفسي شعرت بأنها قد تقصد ذلك!. عيوني مفتوحة، وشفتي مغلقتين تماماً، فتحت الباب وأتحت لها الدخول دون أن أنبس بشفة، وراقبتها وهي تدخل بهدوء عبر عتبة المنزل.

سديم الفراشة - ناسا - تلسكوب هابل

أغلقت الباب وأنا ألاحقها ببصري تسير أمامي نحو المطبخ مباشرة، أزاحت إحدى الكراسي وجلست بعد أن رفعت عنها حقيبتها النسائية ووضعتها على طرف الطاولة المغطاة بمفرش ملون بأشكال مربعة ومثلثة عتيق من أيام جدتي.

نظرت إلي مرهقة وصاحت بي وقد أرخت نفسها على الكرسي بلطافتها المعهودة، ماذا تطبخ؟، أكاد أتضور جوعاً.

اقتربت من المطبخ ودخلت إليه وأنا أراقبها مذهولاً، وبيدي سكين التقطيع، فجأة شعرت بآلاف السكاكين المجهرية وهي تضرب أعصابي من فوق معدتي إلى صدري حتى أطرافي، شعرت بخدر وتنميل شديد اكتسح جسدي. ارتخت أصابعي وأفلتت السكين من يدي وارتطمت في الأرض وأصدرت صوت رنين عميق لتستقر أخيراً على الأرض. ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أفتح يدي باتجاهها لأراها هي الأخرى تقفز عن الكرسي وتدخل معي في عناق شديد مضطرب شعرت فيه بارتجاف جسدي وأطرافي مع أطرافها.

كانت لحظات صمت طويلة ونحن في عناق مشحون. في تلك اللحظات شعرت بأنني صعدت السماء وخرجت من رحم الأرض ولم يكن أمامي سوى كون واسع قاتم ساكن والأجرام تسبح فيه بهدوء. أدركت أنني في احدى ذروات حياتي التي لن تتكرر، وأنني بمجرد أن أنطق بأي حرف سأكون في رحلة الهبوط لأعود مجدداً إلى الحياة الدونية ودوائرها المغلقة.

ما جدوى السؤال حقاً، أين كنتِ؟ أين كُنت؟، ماذا فعلوا بكِ وماذا فعلوا بي؟. لكن لا بدّ من السؤال. ولا بد من اجابة.

تلاشى العناق واقتربنا من بعضنا البعض وكلّ مننا اتخذ كرسيّ له في مطبخ جدي. وكأننا زوجين عتيقين جلسنا وأكلنا آلاف المرات على هذه الطاولة.

أين كنتِ؟ بحثت عنكِ في كلّ مكان؟.

كانت كلا يديها على الطاولة. وأنا أقوم بضمهما بحنان ولطف لا أدري لماذا. لكن تراءت لي صور ومقاطع من أفلام سينمائية عن هذه اللحظة وضرورة أن أقوم بضم كفيّها بحنان ولطف!.

قالت: لقد هربت منهم مباشرة وأثناء هروبي سقط مني جوالي حيث لا أدري، ثم حاولت لقاءك هنا في منزل جدك أكثر من مرة لكنك لم تكن في المنزل. وأنت تعرف أنني لا أعرف منزلك الآخر. ثم كانت عائلتي تتحضر للسفر إلى قريتنا في الشمال ولم أستطع البقاء لوحدي، وأنت تعرف الحكاية بعد ذلك، بقينا شهر على أن نعود على افتتاح المدارس لكن الأخبار التي وردت من جبهات القتال كانت غير مطمئنة وبين قيل وقال سعت عائلتي لنقل بعض القطع الثمينة من منزلنا إلى حلب، وكان علي البقاء هناك حتى أصبح الهجوم وشيكاً، وعندما غادرنا القرية للمرة الأخيرة ووصلنا إلى حلب كان وضعنا مأساوي واضطررت إلى المساعدة على ترتيب أوضاعنا حتى استقرينا مجدداً وذهبت للبحث عنك أكثر من مرة في منزل جدك ولم يكن لك أيّ أثر. 

بصراحة اعتقدت بأنهم أمسكوا بك!. في كل فترة أمرّ من أمام المنزل بانتظار إشارة ما، حتى رأيت النوافذ مفتوحة هذه المرة، فتأكدت من وجود شخص ما، إلى أن قرعت الباب وفتحته لي.

أفلتت يدي بطريقة عفوية، ثم التفت إلى أرض المطبخ، ووجدت السكين مكانها مستقرة، تحركت من مكاني لألتقطها، رفعتها ووضعتها على الطاولة أمامي وأنا أتأمل طرفها الحاد، صمتت مدّة ظننت أنها طويلة.

لقد أمسكوا بي بالفعل....

كانت ردة فعلها دهشة كبيرة بعيون مفتوحة. وهي تنظر إلي.

أكملت: لكن ليس بنفس اليوم، وبالفعل بعد الحادثة لم أعد إلى منزل جدي لخوفي الشديد من أن يكونوا قد أمسكوا بك وتقومي بارشادهم إلى المنزل، نعم. انه الشعور بالخوف والجبن.

تابعت حديثي وأنا ألاعب السكين من جميع أطرافها.

لكنهم أمسكوا بي بالنهاية ثم حققوا معي حول اللوحات ولا أدري ما علاقة كلّ ذلك بهم، ولم أعرف إلى أيّ جهة ينتمون، إلى أن ألقوا بي في سجن غريب من نوعه، شقة فيها غرفة واحدة هي السجن وكأنني سجينهم الرقم واحد إلى أن مضت الأيام ولم يعودوا للكلام معي أو التحقيق.

وكأنهم نسوا وجودي حتى.

ثم ماذا؟ قالت بلهفة؟، هل أفرجوا عنك؟.

رفعت نظري وأنا أدقق بها. اقتربت منها وأفلتت السكين، وأمسكت يديها من جديد. وكذبت عليها وأنا أقول: نعم. لقد أفرجوا عني.

أزحت نظري بعيداً عنها وحدقت في فراغ عميق لا حدود له وأنا أعيد تكرار الجملة الأخيرة: لقد أفرجوا عني بالفعل.

قاطع شرودي صوت رشقات صاروخية ذات جهير ضخم، أثار قلقنا كثافة النيران هذه المرة، واقتربنا بهدوء من النافذة لنشاهد سيل الصواريخ في السماء وهي تنطلق نحو غرب المدينة.

ما قصة اللوحات؟. سألتها ونحن ننظر إلى السماء شاخصين.

لم تجبني في البداية كانت تراقب القذائف الصاروخية وهي تنطلق من كل حدب وصوب. كانت تمسك بحواف النافذة بأصابعها بشدة وهي في أشد تشنجاتها.

أمسكتها وضغط عليها قليلاً لأخرجها من صدمتها وأنا أعيد عليها السؤال: ما قصة اللوحات؟.

انه لشعور غريب. قالت.

دققت فيها النظر وأنا أستفهم ما قالته.

عادت نحو طاولة المطبخ والشمس تكاد تختفي ويحل المساء.

في قريتنا كان لصوت الصاروخ وهو يصفر في السماء رهبة عظيمة، أتذكر تلك اللحظات الأخيرة ونحن نحاول الاحتماء بكل ما يمكن أن نصادفه حتى قررنا الهروب بملابسنا. بالرغم من معرفتنا بأنّ لحظة الهروب حتمية وقادمة لكنني لا أنكر أنني تفاجئت من حدوثها.

الشعور بأنّك مستهدف لكنك لا تدري ان كانت القذيفة ستصيبك أم لا. كشعور لعبة الروليت، لكن طوال اليوم، تتحرك وتتساقط القذائف من حولك ولا تدري ان كنت ستكون الهدف المحقق في القذيفة التالية. فجأة تجف جميع سوائل جسدك وتشعر بأنك فارغ من الداخل للخارج، لا تشعر بأي اهتمام حول أي موضوع مهما كانت أهميته، القلق ينهش جسدك وروحك معاً، رغبتك بالنجاة تفوق أي رغبة أخرى.

أنت في أمان هنا. قلت لها بسذاجة وأنا أحاول تغيير الموضوع.

تمالكت نفسها وتحركت نحو غرفة نوم جدي وكأنها مالكة المنزل، بدأت ألاحقها وأنا أنتظر منها الرد، دخلت إلى الغرفة ونظرت إلي خلفها لتتأكد أني خلفها مبتسمة ابتسامة خبيثة. كانت الغرفة في نور الغسق.

استلقت بكامل راحتها على السرير، وحركت ذراعيها عليه كطائر يطير. وأنا على عتبة الغرفة أقف مستنداً على الباب الخشبي العتيق، متكتف لا أدري ماذا أفعل في هذه اللحظة.

قالت مصححة: ما قصة اللوحة.

استفهمت منها؟ ماذا؟.

استندت على ذراعيها وهي تنظر إلي من موقعها في السرير، ما قصّة اللوحة، وليست اللوحات.

هي لوحة واحدة رسمها الفنان الشهير وضاح سعيد. ألا تعرفه؟. يجب أن تكون على معرفة به الآن بعد أن "استحوذت" على مجمل لوحاته، غمزتني ممازحة.

نعم، نعم، أدرك ذلك لكن ما قصة اللوحة (عملياً هي المرة الأولى التي أسمع بها اسم الفنان، لكنني لم أرغب أن أظهر بمظهر الجاهل أمامها).

رافقت وضاح فترة معينة قبل أن تشتد الحرب في حلب القديمة، كان من الفنانين القلائل الذين رفضوا مغادرة حلب، وظلّ يراقب تغيّر الأوضاع في حيّه القديم من خلال نافذته، حتى اختفى واختفت أخباره تماماً. ويقال أنه استحوذ على "كنز ثمين" ربما هو ذهب أو نقود لا أحد يدري وأنه قد أخفى دلائل عن مكان هذا الكنز في احدى لوحاته. وهي اللوحة الناقصة!.

وما أدراكِ أنت بكلّ تلك التفاصيل!؟.

قيل عن قال، ثم انني أمثل احدى لوحاته، تلك اللوحة التجريدية، بقعة الحبر الحمراء التي لا تجف الممزوجة مع محيطها، تبدو كأنثى تكاد تتحد مع السماء عبر شرفتها. ثم غمزتني.

هل ضاجعت تلك الفتاة!؟، كان السؤال يراودني وهي أمامي على سرير لا أدري حقاً ان كان ما حدث سابقاً واقع أم خيال، لقد بدا لي أن تلك الأيام قد ولت ولم تحدث أبداً. خوف عظيم منعني من الاقتراب، مصالب يدي وقدمي لا أتحرك.

شعرت هي بشعوري ولم تحاول اغرائي أكثر، احترمت كبريائها واعتدلت في جلستها ثم وقفت وتحركت من أمامي وكأنها تقول لي أنت الخاسر، لاحقتها ببصري كالعادة ثم تابعتها وهي تجول أرجاء المنزل. صاحت بي، أين ذهبت باللوحات.

اقتربت منها بسرعة، وأخذت زمام الحديث وكأنني الخبير هذه المرة.

الاهتمام يجب أن يدور حول لوحة واحدة فقط، وليست لوحات. قلت لها مؤكداً بأنني أعرف ما أفعله.

لامست يدي جدار الغرفة لأشعل ضوء الطوارىء لينير الغرفة بضوئه الكئيب.

أخرجت تلك اللوحة التي تحوي رموز استخلصنا منها احداثيات ثلاثة.

ابتسمت وكأنها أدركت شيء فاتها، نعم. نعم، وضاح كان من هواة الألغاز. لكن ماهية هذه الرموز؟.

سلمتها الورقة لتطلع عليها، وأنا أدرك أنها لن تفهم.

احداثيات؟.

تفاجئت بصراحة من معرفتها، لم أتوقع أن تدرك بسرعة ما هية هذه الأرقام، توقعت أن أقوم أنا بالشرح لها. لقد قام برسم الرموز بيديه وهذا عبقري بحد ذاته لم أتوقع أن يقوم الجوال بقراءة الرموز بسهولة. لكنه بارع بالفعل.

أنا وماجد ترجمنا هذه الاحداثيات إلى ثلاثة مواقع في حلب، الأول في المدينة القديمة، والثاني قرب دوار وسط المدينة، والثالث في غرب المدينة، وكلها مواقع أبنية مميزة. 

ماجد؟!، حركت الورقة باستهزاء ساخر وهي تستغرب مني اقحامه في الموضوع.

أخذت منها الورقة بعنف ورددت: نعم. ماجد!، لقد كان الشخص الوحيد الذي انتشلني من أفكار ما بعد الاختطاف...شعرت بذكر الموضوع وكأن جبل ضخم ارتطم بكتفيّ ودفعني إلى أقرب أريكة وجلست عليها خشية الانهيار. وأخفيت وجهي بكلتا كفيّ.

تذكرت أنها لم تعلّق كثيراً حول موضوع الاختطاف أو تستفسر عن سجني ومدته، وشعرت بقلّة الحيلة. اقتربت مني بهدوء وجلست صامتة بقربي وأبعدت يديّ عن وجهي وكأنها دكتور جراح في عملية دقيقة، بدأت تتحسسني وكأنها تتأكد من هويتي وأنا أشعر باختناق رهيب يجتاحني وكأنني على وشك استفراغ فقاعة سوداء عفنة.

ماذا حدث هناك؟، قالت لي وهي تلامس شعري، تحاول استخلاص تلك الفقاعة السوداء.

فيض من القهر يجتاح أعصابي ليفيض بين يديها. أدركت هي هول ما حدث وبدأت تكفكف دموعي وأنا أحاول تمالك نفسي. حتى شعرت بخدر في أطرافي وقشعريرة دفعتني لأن أتكور وأضع رأسي في حضنها مغمض عيني، حينها شعرت بأنني ارتفعت مجدداً نحو السماء، حيث الكون الواسع القاتم الساكن والأجرام تسبح فيه بهدوء لا يعكر صفوها شيء. بدأت تخبو جميع أصوات القذائف من حولنا ولا أشعر إلا بأناملها وهي تداعب خدي وتمسح ما يفيض من دموعي. كانت لحظة عظيمة مزقت ذلك الجبل عن كتفي وحولته إلى أشلاء.

لا أدري كم مضى من الوقت وأنا عائم في الكون الواسع.

صوت صفق الباب كان قوياً، فتحت عيوني مرتعداً وأنا في حضنها أراقب أخي وقد عاد من دمشق، كان قد وقف بطوله الفارع يراقبنا وهو بكامل عتاده ولباسه المموه مغبراً وكأنه قد خرج من حفرة قمعية لتوه.

شعرت بخوف غريب وكأنه قد أمسك بي أقترف فعل مشين، اعتدلت في جلستي وأنا أنظر إليها وإليه أحاول أن أشرح له الموقف.

لقد تم نقلي إلى جبهة حلب الغربية، قال بصوت رخيم لا عواطف فيه.

أرخى جعبته وسلاحه على الأرض دون مبالاة، وتوجه بدون أي تعليق إلى غرفة جدي وصفق الباب من خلفه.

من هذا، قالت لي وهي مرتعبة.

هذا.... أخي....وهو يحب العزف على البيانو.

يتبع....

Report Page