جوع - الجزء الرابع

جوع - الجزء الرابع

Alloush

استيقظ يا فراشتي!، استيقظ.

هذه الكلمات ترعد في رأسي كهزيم الرعد!. أستيقظ بسرعة وأتكوم منتفضاً في الزواية كمن يستعد لتلقي الضربات، وبالفعل تأتي موجة من الماء البارد القارس في زنزاتي حيث لا أدري أين أنا!؟، وكم مضى من الوقت؟!، لا أدري ماذا أفعل أو ما هو مصيري المحتوم؟!.

لا يبدو سجاني من النوع الجهادي أو العقائدي، يبدو أشبه بمرتزقة يستمتع بعمله، في البداية تم استجوابي من قبل العصابة وقدمت لهم كافة المعلومات التي لديّ، أعتقد أنهم اقتحموا بيت جدي وأخذوا جميع اللوحات، الأرقام الثلاثة بيدهم، ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك!؟.

جلّ ما أذكره أنني كنت عائداً إلى المنزل وفي لحظة أحاط بي اثنان من الرجال وأصبحت خرقة ممسوحة في احدى السيارات، أنا في الريف بكل تأكيد، خارج المدينة، مضى وقت طويل في السيارة، وأسمع صياح الديك كلّ يوم، شعور غريب بأن الحياة تستمر في الخارج وأنا هنا عالق.

هل مضى شهر؟، شهران؟ سنة لا أدري.

Release XL 1 بواسطة الفنان Peter Nottrott

أصبحت معتاداً على سجاني وروتينه، يقوم بايقاظي بالماء، يرمي لي بفتات الفطور ويتركني هكذا حتى المساء، لدي فترة استراحة لقضاء حاجتي وأعود لزنزاتي وهي غرفة في شقة منزل تم صنعها على عجل وتبدو مستودع داخل منزل.

أشعر بأنهم قد نسوني، أو لا يدرون ماذا يفعلون بي!.

كيف يمكنني أن أقول لهم اتركوني ولن أتكلم لأحد، صدقاً لا أعرف أحد منهم. ولا أعرف أصلاً كيف أدلّ عليهم ان استطعت.

هل أشعر بغضب، هل أشعر بشيء، فقدت الاحساس بالكامل، لوحدي أنا والجدار أجد نفسي أهلوس وأتكلم وأدردش مع نفسي، أبكي، أو أضحك، قليلاً من المبالاة، بدأت أشتاق لسجّاني، يوقظني باسم يا فراشتي!.

من هو هذا الكائن الذي لا يملّ هكذا عمل لشهور طويلة!. لا يحاول التواصل معي أبداً ولا يستمع لصراخي أو حتى يخشى من أي شيء أفعله قد يسبب جلبة!.

أنا متأكد انني في منزل منعزل!. وهم عصابة من اللصوص، أو يبدو أنهم على علاقة مع الرسام، كان سؤالهم المستمر ماذا أخذت من شقته وأين رفيقتك؟.

أثار دهشتي ذلك السؤال!.

هيفين بدأت تخبو في ذاكرتي وبالفعل بدأت أشعر بأنها خيال أو كذبة!، لا أدري بحق ان كانت حقيقية، في لحظات تأتي لذاكرتي تلك الومضات الجميلة من رائحة شعرها الغريبة، كفها حين أقبض عليه وأخلل أصابعي فيه، لكن شيء في داخلي يرفض تلك الصور ويؤكد لي بأنها خيال.

صوت المفاتيح وهي تصطك في باب الزنزانة يبعث على نفسي الشعور بالسعادة وجبتي اليومية من فطور حقير أصبحت ميعاد رفاهيتي، سجّاني الذي يوقظني بالماء، أشعر بحياد في ذهني واستسلام غريب لفكرة اني استحق ذلك!.

لماذا تبعتها!؟، لماذا لاحقت تلك الفتاة!؟، هي كتلة معقدة من المشاكل، ولا اصدق أنهم يعتبرونها رفيقتي!.

أشعر بجوع غريب في نفسي يدفعني للاستسلام. لم أعد أرغب في الخروج، ولم أعد أشعر بالجدوى بأي شيء!، ربما هم تفاجئوا مني عندما قدمت لهم كل المعلومات من أول صفعة مزقت خدي.

ربما قالوا لأنفسم لماذا خطفناه! كان يمكن سؤاله في مقهى مع ابراز المسدس على خصر أحدهم لأدلو لهم بكل ما يريدونه!.

في خضم كل ذلك أجد جدي رافعاً كأسه محيياً اياي في الفراغ، فأرفع له كأسي بدوري وأنا أحدق في عتمة حالكة، برد شديد يأكل عظامي، لم أرخي ذقني في حياتي إلى هذه الدرجة، أصبحت كتلة من الخراء الحقيقي. ومع ذلك أشعر بتصالح غريب مع حالتي.

أحاول أن أربط الأفكار برأسي، وأجمع النقاط ببعضها في كلّ ليلة، فأغلب الليالي هادئة، إلا ذات مرة سمعت جلبة، ووقع أقدام سريعة واطلاق نار كثيف جعلني أرتعد خوفاً مما سيأتي، لكن سرعان ما عاد الهدوء للمكان وكأن شيئاً لم يكن.

أحياناً تدب في نفسي قوة رهيبة، وأنا أسمع في ذهني طبول وموسيقى كتلك التي يعزفونها عند حدوث كوارث وطنية، فأضرب الباب بكلّ قوة وأنا أتخيل نفسي عند فتحه سأنهال على سجاني بالضرب حتى أنتزع رأسه من مكانه وأنني سأخرج من هذا المكان بعد أن أحوله إلى رماد.

هل أملك الشجاعة لأقتله، بدأت أتخيل نفسي أطعنه، عندما يفتح لي باب الزنزانة وهو باب معدني فاصل لباب غرفة في شقة، ليأخذني إلى حمام المنزل لقضاء حاجتي، أجد سكيناً على طاولة القهوة التي لا يغير مكانها أمام التلفاز وهو موّلف على قناة واحدة تعرض راقصات شبه عاريات مع أرقام هواتف لا تنفك وهي تظهر وتختفي محفزة اياك على الاتصال.

سآخذ السكين وأنحر بها عنقه. أتخيل نفسي في كل المواقف والسيناريوهات. أكرر المشهد آلاف المرات في رأسي وفي كلّ مرة أفشل في تطبيق ما تدربت عليه ذهنياً.

التكرار التكرار، هو الروتين الذي يدفعك للتخلي عن حذرك، يدفعك لاهمال التفاصيل، شيء ما في جسدك يقول لك كل شيء سيكون على ما يرام، شيء ما يقول لك بأن الاهتمام بالتفاصيل حول شيء يتكرر يومياً يصنع وقتاً زائداً لا طائل منه.

أصبح سجّاني في الآونة الأخيرة متكاسلاً ومهملاً عند فتح الباب. ويتقدمني ليجلس على طاولة القهوة منتظراً اياي الدخول إلى الحمام والخروج منه. لقد وصل منه الاستخفاف بي إلى هذه الدرجة!. هذا ما يصنعه الاستسلام!.

دخلت إلى الحمام الحقير لأفاجىء بالسكين موجودة على جانب المغسلة، يبدو أنه قد استعملها في شيء ما هنا أو قطع شيء ولم يكلف نفسه عناء غسلها في المطبخ، لا أدري ان كان يختبرني!. هل هو يختبرني!.

لكنني أمسكتها بقبضتي، وشعرت بنبضات قلبي تتسارع، هل يراقبني بكاميرا خفية وقد فشلت بالاختبار وهو الآن خلف الباب منتظراً اياي!.

حاولت اعادتها إلى مكانها، لكن صوت جلل تفجر في رأسي، وكأن آلاف الأصوات اجتمعت لتقول لي "جبان!".

الكلمة هزتني، شعرت كل شيء في جسدي اندفع ليقول تلك الكلمة، كل شعرة كل خلية، كل نقطة دم عبرّت عن خيبتها مني!.

ماذا فعلت!.

بعد ذلك لا أدري ان كنت مراقباً، أو مشاهداً، بدأت أطرافي تتحرك، فتحت الباب وتقدمت منه، كان متفاجىء وهو يشرب قهوته الباردة، حاول القيام لم يستطع، انهالت يدي على رقبته، شعرت بقساوة جسده ولحمه، لكن قوة رهيبة دفعت يدي أكثر حتى شعرت بحرارة دمه تسيل من كل حدب وصوب، أردت أن أتوقف، أردت أن أقول له انا آسف، أن أسحب يدي، لكن جسدي أخذ مني السيطرة!، تابع دفع السكين حتى شعرت بأوصاله تتقطع وأطرافه تخبو.

لم أشعر بأي احساس سوى الاندهاش مما فعلت. سقط صريعاً وهو ينظر إلي عبر عيونه حيث بدأ نورها يتلاشى شيئاً فشيئ.

التلفاز لم يتوقف عن الرقص، شعرت بالانزعاج مررت يدي المضرجة بالدماء على شاشة التلفاز ورسمت هيكل فراشة بدمه حتى وصلت إلى زر الاغلاق، أغلقته وشعرت بارتياح شديد عند احساسي بالصمت المطبق!.

اقتربت منه بهدوء، كانت الكلمات تخرج رغماً عن ارادتي لم أكن محضراً نفسي لهكذا موقف، على الأغلب لو لم أفعل ذلك سأكون الآن في طريق عودتي لزنزاتي.

نبست تلك الكلمات في اذنه: "لقد استيقظت فراشتك يا عزيزي".

مددت يدي إلى جيوبه، فكرت أن أعرف اسمه!، لكن لا!، لم أفتشه، بصقت في وجهه وخرجت.

كنت قد غسلت يديّ وبدلت ما استطعت من ملابسي، كان لديه ماكينة حلاقة تعمل على البطارية يشذب فيها ذقنه، أخذتها وحلقت رأسي وذقني بكل هدوء وبلا مبالاة. لم أنبس بشفة، شعور ثقيل من المحتوم يلفني. لا شيء سيوقف ما سيحدث بعد الآن، لا مجال للهرب لا مجال لتغيير شيء.


حملت جواله معي، دققت بالتاريخ! شعرت بالغضب لأول مرة!. لقد مضت أكثر من سنة!. توقفت للحظات!. أمعن بالتاريخ، فتحت سجل مكالماته الأخيرة، لا شيء!.

هل تم نسياني!.

فتحت باب المنزل وخطوت خطواتي الأولى في عالمي الجديد!.

شعرت بالارتياح لخروجي من المنزل، لكنني أشعر باليأس!.

كنت بالفعل في منزل منعزل ضمن حي من العشوائيات في المدينة!. على بعد بضعة مئات من الأمتار كان هناك بناية متهتكة خرج من مدخلها ولد صغير متسخ الهيأة، توقف عند الباب يتأملني وأنا أمشي، وقفت أمامه ورفعت يدي محيياً كما يرفعها جدي حين يحمل كأسه!.، استمررت بالمشي حتى وصلت إلى شارع رئيسي أدركه وتابعت السير بكل هدوء إلى منزل جدي، ترى هل يدرك الناس من حولي أنني خرجت إلى الحياة بعد سجن طويل!، هل يشعرون بأنني عدت إلى الحياة!. دوار غريب في رأسي، أشعر باضطراب وتعب شديد.

تركت جواله مفتوح، أردت أن أدرك من سيتصل معه، لكن لا شيء!، حتى دليل الهاتف لا يحوي أي اسم!.

ربما هاتف جديد!.

كنت أسير بهدوء وكأنني أمشي نحو ما هو مقرر ولا مفر منه، خطواتي متثاقلة، لكني أشعر بالعدم والعبث!. اقتربت من منزل جدي، كتلة من التلبد بدأت تتشكل كبخار ينفجر من ثقوب عدة عن جسم مضغوط، تلبد بدأ يلف أفكاري ويشل من قدرتي على أي مبادرة، لم أشعر برغبة بأن أتصل مع أحدهم، لا أمي ولا أخي ولا أحد، شعرت لأول مرة في حياتي بأنّ ما حدث معي لا يهم أحدّ. كانت أنانية مفرطة.

اكتشفت أنك عندما تسير بخطوات متثاقلة لا أحد يوقفك، ولا أحد يسألك من أنت.

وصلت إلى حديقة منزل جدي، لم آبه لأحد، قفزت عن السور، وصلت إلى أصيص الصبار، أزحته من مكانه، أخرجت المفتاح ودلفت إلى الداخل من باب المطبخ المطل على الحديقة، يبدو كلّ شيء في مكانه!.

فتحت البراد، عفونة لا تطاق!، أعدت الباب.

تقدمت من الخزانة حيث وضبت اللوحات وفتحتها، كلّ شيء في مكانه!. شعرت بالغضب!. ماذا كانوا يريدون!؟ لماذا فعلوا ذلك بي!. شيء ما غير صحيح.

سحبت غطاء السرير بهدوء حتى لا أثير الغباء، انسللت داخل الفراش ورميت هاتفه بجانب رأسي.

انتصبت مجدداً، تحركت بلا وعي نحو المطبخ من جديد، أخرجت سكيناً جميلاً، حملته معي، ورميته بجانب الجوال على السرير. ثم استلقيت على الفراش وسحبت غطاءه بهدوء ليلفني.

أدرت رأسي عفوياً نحو السكين أتأملها حتى غفوت.

يتبع...


الصورة:  Release XL 1 بواسطة الفنان Peter Nottrott

Report Page