جوع - الجزء الثاني

جوع - الجزء الثاني

Alloush

استيقظت اليوم على كابوس غريب لا أتذكر تفاصيله، إلا أنني استيقظت وأنا في شهيق قوي وعيوني معلقة على سقف بال وعتيق، الألم في ظهري لا يطاق ولا أدري لماذا تذكرت ذلك الحجر الكبير الذي رمان به أحد زعران الحارة، لا أذكر التفاصيل ومن هو بالضبط لكنني أذكر الألم وأذكر الحجر.

كان حجر بيضاوي فيه أخاديد كثيرة، ملون بشكل خطوط متطاولة، كنت أهرب من أحدهم الذي قرر في النهاية رميي بالحجر حيث استقر في منتصف ظهري، الألم كان شديداً وأجبرني على التوقف وأخذ شهيق قوي وعيوني معلقة في سماء زرقاء في صيف ما.

جل ما أذكره أنني تراجعت إلى احدى الزوايا وجلست فيها أبك وأتخيل نفسي كنبيّ يعذّب!.

لم تكن مبالية في حديثي لكن ذكري لمقطع النبي! دفعها للتوقف برهة عن حاسبها المحول وأخذ نظرة تأكيد حول ما أقوله وتابعت عملها بضحكة خفيفة.

كانت تستمتع بسردي لتفاصيل حدثت في حياتي، لا بل تتذكر الأسماء والشخصيات أكثر مني. وفي كل لحظة وأخرى لا تنفك عن مسك يدي وكأنها تحاول ابقاء جذوة النار مشتعلة.

هل لك أن تجلب لنا بعض من القهوة؟.

بالطبع يا عزيزتي، من لي غيرك لأجلب له القهوة!.

وطبعاً القهوة خاصتها يجب أن تكون مع اضافات وقطعة من الكيك اللذيذ، الذي أستمتع كثيراً بمشاهدتها وهي تلتهمه.

اقتربت أكثر منها وأنا أحمل كوب القهوة وقطعة الكيك خاصتها، واسترقت النظر لأرى ماذا تفعل، كانت تفتح صور لوحات عديدة وتحاول مقارنتها بشبيهتها تلك اللواتي نقلناهم من حلب القديمة، من ذلك البيت المهجور.

توقفت عند لوحة تجسد جسدين ملتحمين مع بعضهمها بألوان كثيرة غطت على العري الفاضح لكلا الجسدين.

هل هي لذات الفنان الذي سرقنا لوحاته!!!، نظرت إلي بحدة: لم نسرق شيئاً بل أنقذنا لوحاته. هو لم يعد موجود بيننا.

هل توفي؟

لا أدري حقاً. كل ما أعرفه أنه بقي في منزله حتى أكثر اللحظات شراسة وانقطعت أخباره منذ ستة أشهر قبل أن تنتهي الحرب في المدينة تماماً.

أخذت مكاني ورميت تعليقي الحاد كمن يرمي قنبلة ويهرب: تلك النهود رسمها ببراعة!.

توقفت قليلاً وهي تراقبني بخيبة. هل هذا جلّ ما لفت نظرك؟!.

يعني تقريباً. راقبي تلك الانحناءات والزوايا، انها معادلة رياضية تلهب الأعصاب.

آه يعني ليس الموضوع في الحجم فقط بالانحناء تبجحت وهي تتناول كوب قهوتها ممتعضة.

تماماً أكدت لها.

الفكرة أبداً ليست بالحجم، انها بالانحناء والتقوس الذي ينتج. انه قوس رهيب ذلك في اللوحة.

ألغت الصورة من شاشة حاسبها المحمول وركزت معي مطالبة مساعدتي. مجدداً.

يجب علينا العودة إلى منزل جدك، يجب أن نعيد فرز اللوحات.

منزل جدي!!!، رنت هذه الكلمة كجرس عملاق!. منزل جدي!!.

عندما نقلت اللوحات لم تستطع نقلها إلى منزلها فهو مكتظ ولا أدري حقاً كيف تستطيع هذه اللوحة..أقصد هذه الفتاة أن تعيش بهذا الكم من الاستقلالية وجميع أخوتها وأخواتها في المنزل على حد قولها.

كان الاختيار على منزل جدي، فهو طابق أرضي له حديقة واسعة وبابها يفتح على الشارع. كان من السهل ايقاف سيارة الأجرة ونقل اللوحات، لكن من خيبتي لم تدخل معي إلى الشقة، بل انتظرتني في الحديقة، كانت تتأمل النباتات والزهور المهملة.

عندما نزلت لأقنعها بشرب فنجان من القهوة، تعللت بالعجلة وضرورة الذهاب وأكدت لي ثقتها بي وائتمانها بروحي عليها.

عجيبة هذه الفتاة، للحظة أشعر بأني أمتلكها تماماً، وبأنها تحت سيطرتي وبلحظة أخرى أشعر بأنني غريب تماماً عنها لا أجرؤ حتى على لمسها.

فيها حزن وشوق، تتفوق على الكثير من الاناث بصراحتها الشديدة تجاه المادية، اذ كيف للرومانسية أن تدوم بدون دخل يتحرك مع كل نبضة قلب. في نظرها لا عشق في دروب الفقر!.

خطر لي أن أجلب بيتزا!!، ساقطة وبيتزا!. في آخر مرة صحح لي ماجد المصطلح، فالساقطة فيه اهانة لانجاز تلك الفتاة، ربما عليك أن تسميها آلهة!. 

آلهة!!. لماذا علي تمجيد كائن حي يتغوط ويفسي مثلي مثله!.

هذه هي فكرتك عن الآلهة! قال لي ماجد!! بأنها لا تتغوط ولا تفسي!.

فكر بها سيكون شيء محرج أن تتغوط الآلهة!.

ضحك بأعلى صوته مربتاً على كتفي مؤكداً جدوى جلوسه الطويل معي، تابع الضحك وكاد أن يتوقف قلبه حتى بضع ذرات من العرق بدأت تتسربل من خيوط ذقنه الطويلة.

توقف قليلاً عن الضحك وبدأ يجمع الكلمات بدقة وحرفية وهو يقول: أقول لك، انك مخطأ في هذا يا عزيزي، لأننا تماماً في مرحاض الآلهة. ثم تابع ضحكه الهيستيري.

الجو لطيف للغاية، نهاية الصيف، مرت شهور طويلة على نهاية الحرب في المدينة، وكل شيء فيها يعود تدريجياً وببطىء، يبدو أنها مسيرة طويلة لمسح آثار الحرب، لكن على الأقل عادت الكهرباء.

عندما بدأنا السير باتجاه المنزل تحت ظلال الأشجار الكثيفة في شارع فرعي نادر أن تسير به سيارة، اقتربت مني وقالت لي حرفياً: لا تغير بي شيئاً.

رددت عليها بالتأكيد وأنا لا أعرف حقاً ما قصدته، بدأت أراجع الكلمات في ذهني، ومع كل تفسير ونتيجة شعرت بتصاعد الدم إلى رأسي!، يا الهي هل حقاً قصدت ما قصدت!، تباً لي كان يجب علي أن أجلب البيتزا....أو أي شيء يؤكل على الأقل. فقد بدأت أشعر بالجوع لتوي.

كانت اللوحات في غرفة المعيشة، ذهبت بسرعة إلى غرفة نوم جدي وأوصدتها بقوة، منعاً مني لأي خطأ قد يصل إلى هذه الغرفة، مهما كان أشعر بالغثيان لمجرد التفكير بفعل أي شيء في غرفته.

عندما عدت كانت قد فردت اللوحات على طول الجدران والكراس وجلست بحيرة وسطهم وهي تنظر إلي وقد أزاحت قميصها وفردت شعرها كطاووس حزين.

ما القصة بالضبط، أحاول أن أفهم القصة لكنها لا تخبرني بشيء دفعة واحدة.

هناك لوحة ناقصة، يجب أن نحصل عليها!.

ما بالك لقد أخذنا جميع اللوحات في المنزل!.

لقد أخذنا جميع اللوحات في الغرفة، لم نفتش المنزل جيداً.

لماذا تشعرين بهذا الضيق، كل هذه اللوحات حصلت عليها! توقفت السعادة على واحدة. وكيف تكون متأكدة بوجود واحدة أخيرة.

كادت أن تتكلم بتفاصيل معينة قبل تبتلع كلماتها وتعود لفحص اللوحات من جديد، اقتربت منها مراقباً اللوحات بتمعن، وبهدوء شديد اقتربت منها من الخلف، تمتلك شذى وعبير لا ينفك ينير الأعصاب في خلايا جسدي. لم أتمالك نفسي وقلت لها: ما رأيك ببعض من البيتزا؟.

نظرت إلي بسرعة وبدون أدنى تردد: فكرة رائعة، ان أردت طبعاً.

حسناً انتظري هنا لا تتحركي، لا أصدق نفسي، هل هذا يحدث حقاً، يا الهي، خرجت مسرعاً عابر الشارع نحو تقطاع الطرق إلى متجر يبيع بيتزا شهية، طلبت تلك التي تأتي بقطع من الدجاج.

أسرعت من الخطى وفي رأسي آلاف من الأفكار، وصلت المنزل لكن لا أحد هنا، تباً لقد فعلتها الساقطة مجدداً، حتى اللوحات لم تكلف خاطرها بجمعها، وانقطعت الكهرباء أيضاً، مزيد من الظلام.

صوتها أيقظني وانتشلني من حفرة عميقة دخلتها للتو، يا الهي ما زالت هي هنا!، نادتني!، أين هي!، يا الهي هل هي في غرفة جدي.

لعنك الله!!، كانت برداءها الداخلي على سرير جدي!، تباً كم هي جميلة، هل يجدر بي ذكر تلك الملاحظة حول جدي!.

ماذا حدث بحق الآلهة ماذا حدث، طلب مني ماجد كافة التفاصيل وأنا أتكلم له عن المرة الأولى لي!، يا الهي ما الممتع في هذا الحديث هل سيتغير شيء من التفاصيل يعني!.

نفخ في نرجيلته محرضاً اياي على البوح.

حسناً ماذا أقول!، كان كل شيء في مكانه لكن الواقع يبدو أكثر صعوبة. كانت ثقيلة حقاً.

ثقيلة!؟ ماذا تقول؟. ثقيلة.

نعم ماجد لقد كانت ثقيلة، حاولت أن أرفعها لكن كان جسدها بارداً وهي ثقيلة مما ضغط على صدري ولم أستطع التنفس!.

ثم ماذا؟، ماذا حدث.

لا شيء، رأيت شبح جدي وشعرت بفتور شديد وخجل عظيم، تحججت بأن لدي مفاجأة لها، نزلت عن السرير وحملت لها البيتزا، وجلسنا على السرير نأكل بنهم وجوع ونحن نراقب خيالاتنا في عتمة الغرفة.

ثم ماذا؟.

لا أود الحديث حقاً. 

لقد فعلتها أيها اللعين بالتأكيد لقد فعلتها.

في الحقيقة لا أدري مالذي حصل بالضبط، التفاصيل كانت ضبابية، جلّ ما أذكره هو أنفاسها المتلاحقة وجسدها الثقيل وعرقها البارد وانفجار ما في مكان ما.

أتذكر في الحقيقة اللحظة التي لمع في رأسها خاطر في ذات اللحظة التي تلاشى فيها كل شيء!، خرجت مسرعة كما هي نحو غرفة الجلوس وكأنها تتذكر، كانت تقلب بين اللوحات لتقول لي بلهجة الأمر أخيراً. علينا العودة إلى منزله، هناك لوحة مفقودة.

ربما علينا الحديث قليلاً حول ما حدث!، مرت من أمامي مسرعة وهي ترتدي ثيابها وكأنّ شيئاً لم يكن!.

الآن وأنا أتذكر تلك الأحداث بدأت أشك حقاً بأن شيء قد حدث.

انطلقت كالمجنونة، لم أعد أستطع اللحاق بها، تبدو الآن وهي تسير بخطى واثقة سريعة كأنثى في خطوات عسكرية، هل هي ذاتها التي كانت قبل قليل. تباً لم أعد واثق من أي شيء. 

أوقفتها بقوة وطالبتها بتوضيح سريع!.

حركت رأسها وهي تتكلم بكلمات سريعة وتصحح من بنطالها وتفتح حقيبتها وتعيد اغلاقها متوترة جداً: لا أستطع أن أشرح لك الآن هناك لوحة مفقودة يجب علينا الحصول عليها. 

كيف لك أن تتأكدي من ذلك، لقد فتحتي صفحته على الانترنت ودققتي في جميع لوحاته المنشورة، لقد حصلتي على أغلبها، كيف لك المعرفة بأنه رسم واحدة لم يأت على نشر أي جزء منها.

لأنني كنت معه حين بدأ برسمها!. قالتها بكلمة واحدة وأوقفت سيارة أجرة ودلفت إليها دون أن تنتظر مني أي رد.

ثم ماذا قال ماجد، مصر على معرفة ما حصل: سيلعنك جدك في قبره إلى يوم الدين ثم ضحك وقهقه بغباء.

لا شيء، حقاً لا شيء. تلمست ركبي المتورمة، هل أجروء حقاً على البوح له بما حدث.

وصلنا إلى حلب القديمة وكانت الشمس تشارف على الغياب، أمام القلعة أصبح مشهد عادي تجمهر الناس والتسكع حتى منتصف الليل مع اضاءة ليلية مستمرة. انعطفنا نحو الحارات القديمة ووصلنا للمنزل، كانت سيارة متوقفة بجانب البناء توقفت قليلاً لأنتظر مرور قطيع من الغنم يسير بلا حياء وسط هذه الحارات، مضت بضع دقائق. شددت من أزري وفتحت جوالي لأشغل الضوء خاصته، فعلاً انها ميزة رهيبة، وأستمتع بوجود ضوء قوي في جوالي، لا أستطع تخيل ما يمكن أن يحدث لولا هذه الميزة.

بدأت بالصعود بتكاسل، وبدأت أفكر من أين لها هذه القوة، كان يجب علي أن آخذ قسط من الراحة بعدما حدث ما حدث، أنفاسها تعود وتذكرني بشيء مبهر حدث قبل ساعة من الآن، اللعنة من صنع هذه الأنثى.

سمعت صوت ارتطام قوي وخطوات سريعة تقفز فوق الحجر، تفاجئت بها وقد اصطدمت بي مرعوبة، صرخت بوجهي، اهرب بسرعة، انجو بحياتي، أمسكت يدي للحظات لتشدني نحو الأسفل لكنها تركتني وهربت بأقصى طاقتها.

لم أستطع فهم شيء، لكن ظهور رجل حليق الرأس وجه مسدسه نحوي وأطلق النار كان كاف لأركض كالمجنون خلفها، بدأت أوجه الضوء للأمام لأرى بوضوح أين هي؟! لكنها اختفت تماماً.

تابعت الجري بكل طاقتي وسمعت من خلفي صوت السيارة وهي تدور وتلاحقني. أي يوم هذا. هل هذه هي العاقبة لما فعلته على سرير جدي، تباً لا أريد الموت، هل هذا جزائي.

كانت الأفكار تلاحقني وأنا أطير حرفياً بين الطرقات الضيقة متلافياً كل الركام، وصلت لبيت مهجور دلفت منه وخرجت من فتحة بالجدار نحو الحارة الأخرى، لا يمكن للسيارة أن تلاحقني الآن.

سمعت بوضوح صوت سائقها وهو يخرج منها ويصيح لصديقه، لقد هرب العرصا.

شعرت بغضب عظيم منه، كيف يشتمني بهذه الطريقة، كيف له أن يعرف أنني عرصا، لا يحق له هذا السافل اللعين. بدأت أبطء خطواتي بعد اختلاطي بجمهور من البشر. أمسكت جوالي واتصلت بها، كانت خارج التغطية.

لم أشعر بالخوف والقلق مثل تلك اللحظات، أين هي يا ربي، لا يوجد أي طريقة للوصول إليها، حتى منزلها لا أعرفه بالضبط.

ما حدث لها، هل يمكن أن يكونوا قد أمسكوا بها، شعرت بخوف شديد عليها، سألت نفسي، هل هذا الشعور جديد، هل كل من يتصل جسدياً بالآخر يتطور لديه هذا الشعور!، بدأت بالسير على غير هدى حتى وصلت لماجد.

ثم ماذا حدث قال لي ماجد وهو ينفخ بنرجيلته. هل أكلت الساقطة كلّ البيتزا؟.

امتعضت منه، وقلت له: لا تقل عنها ساقطة رجاءً.


يتبع...

Report Page