جوع - الجزء الثالث

جوع - الجزء الثالث

Alloush

ما إن يتسلل القلق لصدري حتى يتفاعل ويتطور لصدى رهيب يعيقني عن التصرف بطريقة سليمة، لا أستطيع سماع أحد أو التركيز حول أي موضوع، يصبح كل شيء ضبابي وكل شيء ممكن.

من هو ذلك الشخص الذي أطلق النار، كيف يمكنه بهذه البساطة اطلاق النار، لا بد أنه شخصية تمتلك سلطة كبيرة.

أشعر بمغص غريب في معدتي ومرارة عظيمة ورغبة كبيرة بالنوم، تجنبت العودة لمنزل جدي لبضعة أيام، الخوف أن تدلهم عليه كان كبيراً ماذا لو أمسكوها واعترفت حول كل شيء.

شيء في داخلي بدأ بالصراخ، ما المشكلة، أيّ جرم كبير تم فعله. شيء ما يحدث غير مفهوم، لقد قالت بأنها كانت معه حين رسم اللوحة الأخيرة، ماذا تقصد.

أسير نحو منزل جدي رغم أنني تجنبته وجدت نفسي مجدداً أمام الباب، أعود للخلف بضعة خطوات وأغيّر من طريقي نحو المقهى، حيث كان ماجد كالعادة في مكانه، وكأنه لم يمض أسبوع، لست بحاجة لموعد معه، سيكون حيث هو، وربما يتكلم في ذات المواضيع، أحياناً أحسد ماجد على طبعه الدمث وقدرته الخارقة في خلق العلاقات الاجتماعية، يحيرني في علاقاته مع الاناث، كيف لأنثى أن تنجذب لهذا الجسد الضخم، سيخنقها في اللحظة التي يعتليها!!!. حقاً سيخنقها تماماً، وإنني أشكّ في قصته حول مرته الأولى أصلاً وعلى الأغلب هو بتول لحد الآن!.

رائع انظروا إلي وأنا أحلل شخصيات كلّ من حولي بعد أن فعلتها!.

أحبّ هذا المقهى لأسباب عديدة، أولها أنه مخفي عن أعين الاستهلاكيين فهو يقع في زاوية خلف حديقة، له واجهة زجاجية جميلة جداً ملونة بتفاصيل كثيرة فعندما تسطع الشمس تدخل ألوان مبهجة إلى أثاثه الشرقي.

ورغم شعورك بأنه ضيق لكنه متسع بشكل جيد، له أعمدة خراسنية ضخمة تحمل سقفه الواسع، مما تمنح خصوصية لبعض الطاولات والجلسات.

لكن ما يزعجني حقاً هو سياسة الخدمة الذاتية، يقرع الجرس عند كلّ طلب وعليك الذهاب لجلب طلبك، مهما كان، تخيل عليّ أن أحمل كأس الشاي الساخن أو صينية تحمل عدة كؤوس نحو الطاولة، وشخصياً أعتبر ذلك انجاز رهيب أن تصل إلى طاولتك بدون أن تسكب أيّ شيء، في بداية الحرب في المدينة كانت هناك حوادث عديدة، مثلاً عندما سقطت قذيفة قرب المقهى بشارعين ارتعدت تلك الفتاة التي تحمل كوبها وأكواب صديقاتها وانسكب كلّ شيء على الأرض وتكسرت بسرعة فائقة تلك الأكواب الصغيرة الجميلة لآلاف القطع، ثم بدأت ترتجف وتبك، المقهى لم يحاسبها على تلك الأكواب بل قدّم لها ما تريد من مشروبات مجاناً.

لاحقاً أصبح الجميع متمتع بحصانة ضد الأصوات القوية المفاجئة، حتى صوت الأحاديث لا تتوقف ولو سمعوا أقوى انفجار، جرت العادة أن نقف عن الحديث ونتحرى عن الموضوع عند حدوث اهتزاز معين.

اليوم يبدوا الجميع نسوا الحرب وربما يتوقفون عن الحديث لبضع دقائق ان سمعوا صوت انفجار من جديد.

ما بالك؟ سألني ماجد وأنا شارد الذهن أنتظر جرس الطلب الذي طلبته.

لماذا هناك صبي نرجيلة يأتي إليك وأنا عليّ أن أذهب بنفسي وأجلب كوب القهوة العاهر.

حرك خرطوم نرجيلته كمن يحميها من مفترس وقال: يا الهي أحدهم غاضب جداً، ليس هناك من أخبار عن صديقتك؟.

جيد أنه لم يدعوها بالساقطة مجدداً، لقد حذرته من منادتها مجدداً بذلك الاسم.

شعرت بأسف وهزيمة وأنا أقول: لا، لا شيء، لقد اختفت تماماً.

رباه من يشاهدك قد يصعق!!، أنت حزين من أجلها، هل عشقتها بالفعل!!.

نظرت إليه باستخفاف، ليس الموضوع بالعشق فقط، مجرد اختفاء أي شخص من معارفك بهذه الطريقة ستجعلك قلق عليه.

قال ماجد: بصراحة بهذه الطريقة قد أنكر معرفتي بها لو سألني عنها أحدهم، لا تقل لي أنك لم تفكر بذلك، وبأنّ من طاردكم قد تكون السلطات، ثم لم تقل لي حقاً ماذا كنت تفعلون هناك!!؟.

لم أجيبه ولن أجيبه، لقد وعدتها بأن تكون اللوحات تلك في أمان، لكنه مصيب في بعض أفكاره، لقد دب الرعب في نفسي بأن تكون خارجة عن القانون وربما تم القاء القبض عليها، كم سأكون تافه أمامها حين نفيي معرفتها بها!!.

حسناً انظر، اذا استمر غيابها يمكنك أن تسأل عنها في الجامعة، عليك انتظار بداية الفصل الدراسي فقط، بضعة أسابيع فقط. قال لي ماجد.

كانت فكرة لامعة، لكنني لن أعطه الفضل بذلك، رددت بسرعة، نعم نعم هذه كانت خطتي من البداية.

رمقني بتلك النظرة التي تحمل معان البلاهة وتابع قرقعته في نرجيلته، رنّ الجرس أخيراً. يمكنني أن أشرب قهوتي بسلام.

***

خرجت من المقهى وقررت العودة للمنزل، الطريق إليه يبدو طويلاً لكن يجب أن أعود، أخي قد يصل في أي وقت، وهو عسكري في الجيش، منذ مدة طويلة تبدو لي قرون سحيقة، يمض شهور طويلة ويعود بضعة أيام، أحياناً أشعر بأنه امتهن الحرب وأصبح جزء لا يتجزأ منها، حديثه قليل، وزياراته قليلة إلى حلب، لا يأت إلا كلّ ستة أشهر، يقول لي إن لم يحصل على اجازة طويلة لا ينزل، وأغلب اجازاته القصيرة يقضيها في دمشق.

لا أدر حقاً ان كان يأت إلى حلب لأنه مشتاق لي أو هو مشتاق إلى البيانو خاصته، لدينا ذلك البيانو الضخم في المنزل عريض ومرتفع وقد احتل جدار كامل في غرفة الضيوف، قرب النافذة حيث تطّل على الشارع، يمكنك مشاهدة بعض أجزاء البيانو من الشارع ان كانت ستارة النافذة مرتفعة.

لا أحد في المنزل غيري، أمي لم تتحمل الحرب وكانت وفاة جدي اللحظة الفاصلة التي دفعت العائلة بمغادرة المدينة، لا بل مغادرة البلد نهائياً.

تلك التفاصيل لا يمكن أن تمحى من حياتي، لحظات عصيبة ومقززة، وكلما أفكر بها أشعر بهذا المغص الغريب في معدتي، ولا أذكر سوى رائحة الحقائب الجلدية التي جلبها والدي على عجل لتوضيب أغراضهم والسفر في اليوم التالي.

توفي جدي طبيعياً لكن في ظروف استثنائية في المدينة، لدرجة كاد جارنا أن يضحك عندما ردّ والدي بأنّه توفي بجلطة. هو في الحقيقة لم يتوفى بسبب الجلطة، بل توفي بسبب تشمع الكبد، كان جدي كحولياً من الطراز الرفيع، وقد أدمن الكحول بعد دخول الحرب عامها الثاني في المدينة وكأنه يأمل أن يموت طبيعاً على أن يتمزق لأشلاء في الشارع صدفةً.

في زياراتي الأخيرة له، كان يفتح لي الباب ويعود بسرعة لكأسه يرفعه محيياً اياي ويتابع شربه بصمت.

أمي كانت تعتبر جدي سبب بقاءها في المدينة، وبوفاته انتهت واجباتها، كانت تقيم طوال الليل وهي تصلي وتقرأ القرآن، أتذكر ذلك تماماً حيث كنت أخرج من غرفتي ليلاً لأشاهد الضوء في آخر الغرفة جانب البيانو، تصلي وتقرأ وتكاد تبكي وهي تطلب من الله أن ينهي كلّ هذه الكوابيس أن ينهي هذه الحرب مرة واحدة.

والدي لم يعارضها تماماً تدخل أولاً بفكرة أخي، وبأننا يجب أن نبقى لأجله. لم تكن تعارض والدتي ذلك لكن الخوف تغلب عليها. وكلّ ما كانت بحاجة إليه هو اتصال مع أخي ليؤكد لها صواب قرارها، لا بل أمرها بالخروج من المدينة.

صراحةً شعرت بالخوف بحق عندما سمعته وهو يأمر الجميع بالخروج من المدينة، وكأنه يدرك حقيقة لا ندركها.

لقد تغيّر أخي بشكل كبير خلال الحرب، لا أدر أين يكون وماذا يكون في دمشق لكنّ مع كلّ زيارة كانت علامات واضحة عن اصابات حقيقة في جسده تبدو أثارها، وبالرغم من أنّه كان يدرس في كلية الحقوق لكنه رفض اكمال جامعته، التحق بالجيش فوراً منذ بداية الحرب. مع كلّ سنة تمض أصبح حديثه قليل، قناعاته غريبة. يمتلك جسداً خارقاً، فهو طويل وعريض المنكبين، وبعكسي هو يمتلك قراراته ولا يتردد أبداً.

يخيل لي أنه أمر العائلة بالذهاب ليختلي بنفسه وبالبيانو، البيانو كان جزءاً من المنزل منذ اشتريناه، ومنذ لحظة انتقالنا وأنا أعي أخي وهو يعزف عليه.

أخي بعيد كلّ البعد عن التكنولوجيا وشبكات الاتصال لا يحمل إلا هاتفاً بسيط مع ضوء صغير في أعلاه، يدخل وبيده حقيبته الصغيرة، يتركها عند الباب ويعانقني بطريقة أبوية، يضمني ضمّة قوية، ثم ضمّة متوسطة، ثم يربت على كتفي ويسألني عن أحوالي دون انتظار أي اجابة مني، يدخل غرفة الضيوف، يطمئن على البيانو، يذهب ليغتسل ومن ثم لا تجده إلا ويعزف.

وصلت الشارع وبدأت أسمع عزف البيانو، يبدو أنه وصل قبلي. تأخرت قليلاً لأنني جلبت بعض الوجبات السريعة.

دخلت المنزل، ورغم مضي ثلاث سنوات على هجرة أهلي المدينة أكاد أصيح لأمي بأين هي كلما عدت للمنزل!!، أكتم نفسي وأمض نحو الغرفة، هي ذات المقطوعة الجميلة التي يعزفها منذ سنين، يستمر بعزفها ساعات، فتحت الباب مواربة كان منهمك بالعزف، اقتربت منه وجدت بجانبه قنينة كبيرة من الخمر يشربها دون تلكوء.

عندما أدركني نهض بسرعة وسعادة، ضمني بقوّة.

لم أرد مقاطعتك، تابع العزف.

في عزفه حنين مطلق، تكرار روتينه خلال زياراته أصبح بالنسبة لي اجازة بحد ذاتها، أجلس بجانبه وأتجول بالمنزل الخاو وأنا أسمع نبض البيانو يتردد في كلّ أرجاء المنزل.

ربما طلب من أمي الخروج بسرعة لكي ينعم بهذه اللحظات!!، لو كانت أمي هنا لكانت كسرت البيانو على رأسه وهو يشرب الخمر، جدي فقط المسموح له بالمعصية، لم تمنع عن جدي كأس واحدة ولم تنهره يوماً.

لم يكن من طريقة لخروجي سوى اكمال دراستي، ووجودي أصبح ضروري لحماية أملاكنا وعقاراتنا. أو ربما هكذا اعتقدوا.

لم أرغب بالخروج من المدينة أبداً، لم أتخيل نفسي أخرج منها، كيف أخرج وأنا أجدها جنّة الأرض، لا. حقاً، كنت في كلّ يوم أستيقظ كأسعد انسان على وجه الأرض، لا أصدق حمل كتبي ومحاضراتي والانطلاق نحو الباص، أركب محشور بين البشر وأنا سعيد وأستغرب هذه الوجوه التعيسة، لم أكن أعير أي بال لكلّ نار الحرب من حولي، شيء ما في داخلي آمن بأنّ هذه النار لن تصل إلى حيث أنا، وأنه من المستحيل أن تتطور الأمور أكثر مما وصلت إليه!!.

اللحظات التي أمضيها معها في الجامعة كانت تساو كلّ مافي الأرض بنظري. تباً لعزف البيانو، هو الشيء الوحيد الذي يدفعني لأتذكرها.

كلّ مرة أصدق نفسي بأنني تجاوزت كلّ هذه الكيمياء الغبية، وأنّ كل ما يحدث بين البشر هو مجرد تفاعلات وهرومونات، لا يمكن لأحد أن يحب أحد للأبد، لا مكان أبداً للعشق الغير مشروط، جميع العلاقات العاطفية مشروطة بالمصالح، هكذا يجب أن تكون.

عزف اخي يدخلني غيبوبة غريبة من الذكريات، تتلاشى كلّ الأصوات من حولي ولا أجد نفسي إلا وقد ذهبت إلى خزانتي وبحثت بين الأغراض لأخرج صورة شبه ممزقة ومثينة من كلّ الجوانب لأنها كانت في جيبي دائماً.

أحد الطرق لأنساها كانت أن أحرق كلّ شيء يمت بصلة لها، وضعت كلّ أغراضها في صندوق وأضرمت فيه النار، لكنني لم استطع أن أحرق صورتها، سحبتها في اللحظة الأخيرة وضممتها لصدري كطفل يطلب السماح من ربه عن فعل شنيع.

أنظر إلى هذه الصورة الملونة، تتكىء على سور الجامعة الخارجي ومن خلفها تبدو قضبان السور وأشجار جميلة خضراء تبعث على السلام، كانت في قمّة فخرها بنفسها وبشعرها المجعد المسترسل حتى خصرها، وأسفل عيونها لديها تلك العادة بوضع بعض الكحل الأزرق، ليتناسب مع لون عيونها. اساورها البلاستيكية التي لا تملّ منها. تمتلك بريق آخاذ كفيل باختطاف أنفاسك.

ما هي الصورة أقول في نفسي، ورقة وحبر عليها يشكل بقعة لا تجف في خيالي، شيء ما يجعلني أشعر بكهرباء عنيفة تولد وتختفي كلما تذكرتها. يدور صوت في رأسي، لماذا تستمر في حمل الصورة، هل تشعر بالمتعة وأنت تتذكرها مع صوت البيانو، هل عليك بالاستمرار والوقوف هكذا وأنت تحمل الصورة وكأنك في فلم أو مشهد درامي، هذا الصوت الذي بدأ بعد اختفاءها من حياتي بأشهر تطور وكبر وتضخم، هل هو صوت العقل!.

اذا لم يكن هناك من مشاعر حقيقة تجاهها فما هذا الذي يحصل معي؟!، ولماذا هي بالتحديد؟!. أسأل نفسي وأنا أعيد الصورة حيث هي لأجد الصوت نفسه يجيبني: ربما لو كتب لها الحياة لتطورت علاقتك معها لتصل إلى حيث تصرخ في وجهك أن تغرب عنها، وربما تصيح مرة أخرى عليك بأن تموت، تصيح بعنف: أنت ميت، أنت ميت!.

كان اسمها أسرار، وهي كتلة من الأسرار الجميلة، الفتاة الأولى التي علمتني بحق معنى أن تكون عاشقاً، اللحظات الجميلة الدافئة لظهورها في قاعة المحاضرة، الوقت الضائع الذي نمضيه سوية، حتى يوم اختفائها قبل ثلاث سنوات، غابت عن المحاضرة وعندما اتصلت بها كانت خارج التغطية، صديقاتها يبكون وينتحبون.

كانت غرفة عزاء كبيرة أسفل منزلها، لم أجروء على الدخول وتعزية أهلها، لم يظهر اسمها على الأخبار، أصبح الموت مجرد رقماً، العدد كانت بضع من العشرات في سقوط صواريخ حيث شارع مزدحم، تبخرت من الوجود.

بضع قطع من الشظايا، براغي وعزق وحديد مقطوع ان تحركت بسرعة كافية واخترقت اللحم والعظم فكلّ ما أنت عليه ينتهي.

كانت أكثر أيام حياتي حلكة، عدت إلى المنزل الخاوي، كان قد مضى على هجرة أهلي وقتها بضعة أشهر، شعرت بأن خدعتي في الحياة كانت قد سرقت.

قبل يومين أعطتني فلماً لأشاهده، يدعى بأساطير الخريف، وعدتها بأن أشاهده، قالت لي بأنه المفضل لديها. لم ولن أشاهده أبداً.

أصبحت أكره الاستيقاظ صباحاً وأشعر بالغضب الشديد عندما أنحشر في الباص، وأكاد أختنق لدى وصولي قاعة المحاضرات.

عندما يتوقف أخي عن العزف أشعر بأنني خرجت من غيبوبتي، أعود للغرفة حيث هو لأثني عليه، لكنه كان قد انتهى من زجاجة الخمر وغط في نوم عميق في سريره.

هل حزنت، هل بكيت عندما توفيت أسرار!!. سألت نفسي.

لقد غضبت، بصراحة، غضبت غضباً شديداً، وكفرت أشدّ الكفر، أذكر ضربي لطاولة المطبخ الخشبية بطرف قدمي، ولا أدري حقاً ان كنت ضربتها لأنني وددت أن أضربها أم لأنني شاهدت في فلم أو رواية أنّه يجب أن أغضب بهذه الطريقة.

أحياناً أشعر بأنّ الدراما تحركني، وبأنّ حياتي سلسلة طويلة من الاقتباسات التي لا تنتهي.

استيقظت اليوم على صوت ضجيج من المطبخ، أخي استيقظ باكراً، فطرناً معاً، قرر الذهاب وزيارة أصدقائه، ذهبت معه، كانت بداية شهر أيلول وقررت زيارة كلية هيفين سأبحث باسمها في القوائم القديمة، لا بد أن يعرفها أحد. كانت نصيحة ماجد جيدة، لا أستطيع انتظار بداية الفصل الجديد، انني قلق عليها فحسب، لا شعور حقيقي تجاهها.

هيفين أنا نفسي لا أعرف كيف تطورت العلاقة بيني وبينها، كنت أعرفها من الجامعة من خلال صديق صديقي، وأكثر من مرة التقينا على عجل في أكثر من مكان لأكثر من صديق مشترك، كان اسمها يتردد، أتعجب كثرة هؤلاء الأصدقاء المشتركين ولا أعرفها، سمراء هي ورغم أنها قصيرة تمتلك جسد رشيق بأجمل عيون ملونة يمكن لك أن تتخيلها، ولا أعرف ماذا يحدث عندما تضع أحمر الشفاه، انها تدفعك لأن تتأملها دقائق ودقائق طويلة. ولم يحدث أن التقيت معها بشكل جدي إلا بعد سنتين من وفاة أسرار، حيث التقيت بها صدفة في ذاك المقهى، وتكررت تلك الصدفة حتى أصبحت ميعاداً.

في الباص بعد أن نزل أخي لم أجد بداً من التنصت على من خلفي يحلل سياسياً وعسكرياً منجزات تحرير مساحات شاسعة، انه يتحدث عن بدء مرحلة النهاية وبأن الأمور في خواتيمها، قال أيضاً انهم يهربون!. لم يأخذني عن التنصت له سوى فتاة تقف عند تقاطع الشارع، انها هيفين، نفس الشعر ونفس البلوزة، لا يمكن، هل هي هيفين؟.

وقفت وتحركت بسرعة بين الحشود وتخاصمت مع السائق لأجبره على الوقوف مجدداً بعد الموقف بعشرات الأمتار، نزلت وبدأت بالجري كانت قد تحركت باتجاه الشارع لايقاف سيارة أجرة.

بدأت أجري وأصرخ عالياً، هيفين!، شعرت بشيء غريب يتحرك في صدري، هل هذا يحدث حقاً، أصرخ اسمها وسط الشارع وأنا أجري نحوها. توقفت التكسي حقاً بفعل صراخي، ووجدتها تستدير وتنظر إلي بقرف!، أخذت نفساً عميقاً، وشعرت بخجل كبير. لم تكن هي أبداً، وشعرت الفتاة بغضب وخجل كبير!، في الحقيقة تمنيت لو تحولت أنا نفسي إلى شجرة على جانب الطريق في تلك اللحظة.

اعتذرت ربما ألف مرة حتى عندما انطلقت سيارة الأجرة مسرعة، شعرت بأنّ كلّ المدينة تنظر إلي وتسخر مني رغم أن الشارع كان خالياً وكلّ من شهد الموقف قد غادر، ربما يحكونه كنكتة في المساء، مجنون يصيح باسم فتاة في الشارع، ما يظن نفسه، بطل فلم درامي!!!؟.

من الجيد أن أخي لم يكن معي وإلا كان عنفني، كلّ هذا ليس أنا، بعد وفاة أسرار تمكنت بنجاح من كبح عواطفي، كان قرار سليم بأن لا أسمح للحياة أن تربطني بشخص آخر، لقد آمنت حقاً بأنه لا أحد اطلاقاً سيبكي على أحد آخر ولا أحد له منية في حياته لأحد آخر.

أن تسير وحدك وسط كلّ هذا الزحام هو بكلّ بساطة معنى وجودك. يجب أن تسير، فقط تابع السير. لا تتوقف.

وصلت لمنزل جدي، فتحت الباب ودلفت للحديقة، بدأت خيالي اللعين يحاكي طيفها، لديّ هذه المخيلة العظيمة القادرة على صنع تعاستي في أصعب الأوقات، مضى أسبوعان على وجودنا معاً هنا. تباً لقد بدأت أصنع تاريخ جديد!!.

كانت صورة الفتاة الغاضبة والخجولة في سيارة الأجرة لا تفارق ذهني وأنا أدخل المنزل، بدأت أصيح وأرد عليها في خيالي، ما بك أيتها العاهرة، لقد أخطأت بتشبيهك، هذا كلّ ما في الأمر، ماذا تظنين نفسك لتعطيني نظرة القرف تلك.

أخذت قنينة ماء للشرب مخزنة في المطبخ حيث نضع الكثير في كلّ منزل في المدينة تحسباً لانقطاع المياه، دخلت غرفة الجلوس وكانت اضاءة خفيفة آتية من نافذة الحديقة، واللوحات كما هي مكانها مفرودة في محيط الغرفة، طعم الماء ممتع جداً بعد العطش، أكاد أشرب نصف لتر مباشرة، بدأت أشرب باستمتاع رهيب وسط اللوحات وأنا أتذكر هيفين.

لقد أوصدت غرفة جدي لكنها كانت هناك الشيطانة!، هذه الفكرة دفعتني لأبصق الماء لا ارادياً وأضحك بعنف، كانت نوبة ضحك كبيرة، وصورتها على سرير جدي لا تفارق ذهني.

لم أنتبه إلى ما حدث إلا بعد وصول الكهرباء بدقائق حيث اشتعلت الأنوار في الغرفة لأجد ألوان احدى اللوحات قد بدأت بالانحلال بفعل الماء الذي بصقته.

تعجبت أبهذه السهولة تفسد اللوحات، ذهبت لأجلب قطعة ثياب جافة وضعتها على اللوحة ولعلها تتشرب المياه، ثم قد لا ينتبه أحد فهي لوحة مرسومة بألوان مبعثرة بشكل مجنون، قد يعتقد أحدهم حيث البقعة التي تشوهت بأنها فن عظيم وضربة فرشاة عبقرية!.

كان مربع أسود غريب تحت الألوان مرسوم بدقة، وبداخله مربع غامق، مسحت بقوة فذهبت الألوان جميعها عدا لون اللوحة الأبيض ولون المربعات الأسود.

شعرت بتنميل عجيب في رأسي، هل يمكن لهذا أن يكون!؟.

جلبت المزيد من الماء، وبللت قطعة الثياب وبدأت أمسح الألوان بالكامل عن اللوحة، ومع كل مسحة، المزيد من المربعات السوداء تنتشر بشكل مبعثر أقرب لخريطة ما، انتهيت من مسح كل ألوان اللوحة، ابتعدت للخلف وكان ما توقعت، شعرت باثارة لا تصدق، كتمت ضحكتي، مسكت هاتفي لأتصل مع هيفين، لكنها لم تكن بالتغطية، وددت لو أصور اللوحة وأنشر ذلك، كان لدي رغبة هائلة لأخبر أحدهم، هل أتصل بأخي وأخبره، لكن ماذا سيقول، ماذا في ذلك، ماذا يعني ذلك؟!.

كانت اللوحة الأصلية هي ثلاث مربعات شفرة مرسومة فوق بعضها، ولمن يعرفها يمكن فك الشفرة هذه بأيّ جوال حديث، لا بدّ أن الرسام رسمها ثم أخفاها بالألوان، لماذا فعل ذلك؟.

فتحت جوالي واقتربت من أول مربع، لم يكد يدركه حتى تحول لأرقام، شعرت بحماس رهيب، أمسكت ورقة وقلم وبدأت أسجل الأرقام، هل هذا ما كانت تبحث عنه هيفين، مررت على المربع الثاني والثالث، رتبت الأرقام أمامي، كانت أرقام من الصفر إلى التسعة لكنني لم أفهم شيئاً، زادت حيرتي على حيرة، ربما لو كانت هي هنا لأدركت ما يعني ذلك.

يا الهي، بدأت أشعر بهول الموضوع وخطره، ربما الموضوع كبير، ربما هذه الأرقام تخفي حقيقة كبيرة، أو هو سرّ عظيم.

جمعت اللوحات الباقية مع اللوحة التي مسحتها ووضعتهم في خزانة جدي.

جمعت الخرق ومسحت الأرض، وكأنني ارتكبت جريمة وأمحي آثارها.


يتبع

Report Page