جوع - الجزء الأول

جوع - الجزء الأول

Alloush

انزل للأسفل، قالتها متحمسة وهي جالسة بجانبي تحرك ساقها أسفل الطاولة محاولة الاحتكاك بقدمي، ممسكاً بهاتفها الذكي وأطالع صورها العديدة، تفاجئت بالكم الهائل للصور التي تمتلكها على ذاكرة هاتفها، كنت أعتقد أن الجميع يحتفظ بذكرياته على أجهزة أكثر أمناً. ربما لا تمتلك حاسب محمول، أهي من تلك الطبقة التي تحدث عنها ماجد بأن الانترنت عبر الهواتف الذكية اخترق شريحة اجتماعية ليست جاهزة أصلاً للتواصل الاجتماعي.

ومع انتقالي للأسفل ازدادت الصور قوة وحدّة!، احداها كانت وهي ترتدي لباس داخلي أصفر وأسود على شكل نحلة!، كانت صورة واضحة جداً لها وهي ترتدي تلك الملابس الداخلية ومصورة نفسها أمام المرآة!.

واو، مذهلة حقاً، قلت بانفعال!.

هل أعجبتك؟، كانت تنظر إلي بعيونها الملونة وأمالت رأسها لتنسدل خصال شعرها على الطاولة، بدت بريئة للغاية وهو تنظر إلي بارتباك.

ماذا؟، هل أعجبتك؟ ألحت علي كفنان ينتظر الرأي الأول بعد عرضه للوحته السرية.

هل سترتدين هذه الثياب لي؟، غمزتها.

ضحكت، ثم اعتدلت في جلستها وهي تنقر على الطاولة مؤكدة لنفسها، لقد أعجبتك، بالتأكيد أعجبتك، وكيف لن تعجبك.

***

هل أعجبتني!، لا أدري حقاً إن أعجبتني، هل من المثير أن تعجبني، كان شيئاً جديداً، لكن بكل الأحوال الصورة سيئة الاضاءة والمرآة متسخة!!!.

هذا هو سر اثارة الصور المصنوعة محلياً يا أحمق، ضحك ماجد وهو سمين كث الشعر بذقنه الطويلة، يضع خرطوم طويل في فمه ويشفط ما تيسر له من الدخان ويعيد نفثه للأعلى سعيداً بهذا الحديث.

ادعها إلى شقة جدك، اجلب عشاء جميل واحصل معها على ليلة جميلة!، إنها جاهزة، أقول لك ذلك، إنها جاهزة، لا تتأخر وإلا ستبرد الأمور وتخسر الكثير من الساعات التي أرهقت نفسك فيها في التعارف عليها.

أتدري إنك بارد بعض الشيء في وصف العلاقات الانسانية، وكأنني كنت أقصد هذا الشيء خلال معرفتي بها، الأمور تطورت بطريقة لا أدري كيف.

أزاح خرطوم نرجيلته وتقدم مني، اياك أن تصدق حكايات الرومانسية تلك، الفتاة جاهزة، عليك اقتحامها. ثم كأنك تتكلم وكأنها المرة الأولى لك!، ماذا عن تلك الساقطة التي لا تكف عن طلب البيتزا بعد كل انفعال بينكم!. ضحك بصوت عال، لا أصدق كم يجوع الانسان وهو على فراش المتعة، تباً تلك الساقطة هي الأروع بحق. انك لمحظوظ بشرفي.

انظر إلي، انظر إلي، أشار لجسده الضخم وهو جالس على كرسيه ذو المساند في قهوته المعتادة، يكاد يصبح جزءاً من أركانها، يشرب القهوة من الصباح للمساء وينرجل الأركيلة، يعرف كل الزبائن وهو دمث الحديث حاد في آراءه ويبدو أن الجميع يهوى الجلوس معه ليتم جلده ببعض تلك الآراء، متعة تعذيب النفس!؟، لا أدري.

لا أذكر بالضبط متى حدثته عن تلك الساقطة!، لكن بالتأكيد لم أضاجع أحداً على فراش جدي وجدتي.

ما جدوى كل ذلك حقاً، أن تكذب على شخص من المفترض أنه صديقك حول مضاجعتك لساقطة تهوى البيتزا بعد كل نشوة على فراش جدك!!.

يضحك ماجد، كذبة جميلة كانت اذن، آه منك يا لعين تستحق أن تكون كاتب، وصفت لي أدق التفاصيل وكأنك في الغرفة، أتدري ربما إن حدثت في الواقع لم تكن لتكون جميلة كالكذبة التي حكيتها.

لكن بحق لا أذكر متى قلت لك تلك القصة!.

اذن ادعو تلك الحمقاء لتكون المرة الأولى لك!!، ستكون ليلة لن تنساها، صدقني، رغم كل تجارب حياتي لا زلت أذكر المرة الأولى، تبدو لي وكأنها عطية من السماء، رغم ان وصف واقعها غير مشجع للغاية!.

تابع ماجد حديثه عن مرته الأولى وبدأ صوته يخبو في ذهني، فالقصة معروفة ومتكررة مع تغيير بعض التفاصيل التي تتبدل تبعاً لمزاجه، فمرة كان البلاط دافئ ومرة كان بارد.

من الضروري أن يكون لك رصيد من الاحترام لدى الآخرين في المجتمع ويبدو قصة المرة الأولى لها من الرصيد الشيء الكثير. ساقطة تهوى البيتزا بعد كل نشوة، تبدو لي صورة لا تغادر ذهني.

أعجز عن ضبط الأفكار والأصوات في ذهني هذه الفترة، يبدو لي كل شيء جنوني وسريع للغاية، لدي الكثير لأدركه وقليل جداً من الوقت، جدول الأعمال في ذهني يتبدل ألف مرة بالدقيقة، لدرجة أقف في بعض الأحيان عاجز عن الحركة أحاول فهم ما يجب فعله لاحقاً. اتصل معها، عليك بجلب الخبز، اشتري ساعة، يجب اصلاح ذلك الثقب في الجدار.

اعتذرت من ماجد، وخرجت أسير بين الشوارع، كان الجو دافئ للغاية، والشمس مشرقة حادة ساطعة، تبدو المساحات المظللة تحت الأشجار كواحات مزدحمة.

اشتريت علبة مرطبات من كشك صغير يبيع الصحف والجرائد وقطع الشوكولاتة ولديه براد صغير فيه جميع صنوف المشروبات الغازية وفي الأسفل مشروبات غازية كحولية لم تكن لتجدها قبل سنوات من الآن علماً أن سعرها اليوم عشرة أضعاف سعرها في السابق.

ما ان وجدت بقعة مظللة جلست على حافة سور قريب أراقب حركة السير، باصات نقل داخلي بعناوين جديدة كانت من المستحيل الوصول إليها، مر باص مكسور النوافذ ومليئ بالثقوب الناتجة عن شظايا قذيفة هاون على الأغلب، لكنه يعمل ويحمل ضعف العدد الذي يستوعبه ويسير!!. انه يعمل، يا للهول!.

رن هاتفي وكان اسمها على الشاشة، كنت سعيداً بذلك، أستغرب براعتها في الكلام، أنا نفسي لا أستطيع ترتيب حديثي على الهاتف رغم كل الترتيبات يبدو حديثي اعتباطي، ولا أستطيع اقناع الآخر بالموضوع الذي اتصلت به.

تريدني أن أذهب معها للمدينة القديمة، تريدني حارس لها، تقول أنّ هناك بعض الأماكن لا يفضل أن تسير بها لوحدك وسط الركام والزوايا المهجورة، حسناً بعد ذلك كله هو مشوار جميل بين خرائب الخرائب، لم أذهب بعد للمدينة القديمة بعد خروجها من دائرة الحرب.

بدأت لائحة الاعمال في ذهني تتبدل ويرتفع للرقم واحد موعدها، ليحل الأول ويزيح كل شيء آخر للأسفل، بت الآن أدرك أين أريد الذهاب، رميت بعلبة المرطبات، وبدأت السير نحو الدوّار المطلوب.

هو مكان متفق عليه، لكنه لم يعد موجود أصلاً، تم ازالته قبل الحرب بسبب الازدحامات حوله، كان يدعى بدوّار السلام، ومنه يمكنك السير باتجاه نفق تشرين!، وبعدها تصل لمحطة بغداد ومنه نتابع السير وسط أحياء حلب.

كان اذن المكان دوّار السلام، وفي الحقيقة كان تقاطع طرق لا دوّار فيه ولا سلام.

بهية الطلعة هيّ، لا أصدق كم هي قصيرة وجميلة في آن واحد، تصغرني ببضع سنوات لكنها متفجرة بحماس رهيب، ماجد قال عنها صاروخ!، والصاروخ يتابع تسلقه السماء بشكل لا يمكنك متابعته، الأفضل مع هذه الصواريخ متابعتها وهي تتسلق السماء لتتلاشى أخيراً.

ربما لا يدري ماجد أن صواريخ الفضاء اليوم يمكنها أن تصعد وتعود وتصعد وتعود أكثر من مرة.

كانت صاروخ بحق!. ما ان وصلت وبدأت بالكلام حتى تلاشى ذلك الصمت في ذهني.

هل يمكنك أن تطلب تكسي!!؟.

ظننت أنك تريدين السير للمدينة القديمة!!

لقد مشيت مسافة طويلة لهنا وشعرت بالتعب ثم اننا سنسير في المدينة القديمة كثيراً لا أريد أن أجهد نفسي وصولاً لهناك تحت هذا الحرّ!.

لديها تلك العادة لا تترك يديها بدون عمل، يعني وهي تتكلم معي لا بد أن تحك أذنها، أو تصحح من بنطالها، أو ترفع قدمها وتزيل حصوة علقت في حذائها.

كيف تستطيع أن تقوم بكل تلك الأعمال دفعة واحدة!.

ما هي إلا دقائق وأوقفت تكسي، عجوز مقيت يقود سيارة كورية عفا عليها الزمن، رفض بالبداية الذهاب إلى شرق المدينة، يقول أن دواليبه قد فقعت من شظايا الطرق، ردت عليه بسرعة أنه تم تزفيت الطريق من جديد!. فاجئتني حقاً، ظننت أنها تذهب لهناك للمرة الأولى، أو ربما صديق لها أخبرها بذلك، ثم اليوم بامكانك معرفة كل شيء بالمدينة عبر تطبيق بالهاتف الجوال، تفتحه وتشاهد وتسمع وتقرأ كل ما يحدث في المدينة، شيء خطير للغاية.

عاد صوت ماجد وهو ينبهني حول هذا الموضوع بأن تكنولوجيا التواصل اخترقت شريحة كبيرة من المجتمع لم تعتد أبداً ثقافة القيل والقال إلا بالخفاء والنميمة.

وأنا بالسيارة لمحتها في المرآة تحاول التواصل معي، وصلتني رسالة على عجل، كانت منها: جوعااااانة!!. وبجانبها وجه يغمز!.

نظرت إليها بالمرآة مبتسماً ببلاهة، هل حقاً هي جائعة، آخ عادت إلي صورة الساقطة الجائعة، ثم انها جائعة لأي شيء، بعد ذلك الوجه مع الغمزة، لم يعد ذلك الجوع بالنسبة لي يمثل إلا جوع واحد. تباً انها جاهزة بحق!.

وصلنا لأقرب نقطة للمدينة القديمة، وبالفعل كان الطريق مزفت ونظيف، كل ذلك الركام من حولك، لم أستطع الشعور بشيء في الحقيقة، كثافة الصور التي وصلت عبر التلفاز والانترنت كافية لتدمير أي شعور بالدهشة، ربما بعض الأبنية السليمة هي التي أدهشتني في الحقيقة، كان الصوت الذي تسمعه عند مشاهدة بناء سليم: أوه أنظر إلى هذا البناء لم يصب بأي شيء!. انه سليم بالكامل!.

أريد لذلك الشعور بالخدر والمغص اللذيذ أن يحدث، انك تسير بمحاذاة انثى خارقة الجمال، وانت تدرك ذلك، لكن شعور بانفصال كبير يطغوا، لا تشعر بالمتعة حقاً وسط كل هذا الركام. تقدمت السير بشجاعة ودخلت احدى الزوايا لكني توقفت لا أدري بعد أين أذهب، الركام من حولي في كل الزواياً، جبال من الركام.

بدا طريقي هو الصحيح لكنها نهاية مسدودة، استدرت نحوها فوجدتها تقفز ببراعة فوق الركام دون خوف أو وجل وصلت لطرف التلة ومدت يدها، أمسكت بها بقوة وشدتني نحوها، يا لها من قبضة قوية!.

كانت سعيدة وعيونها تفيض بكلام كثير، حتى أنها بدأت تدندن وهي تنزل التلة باتجاه طريق واضح في ذهنها، بدأت تسرع الخطى وأنا أسير من خلفها، المنطقة مأهولة ببعض السكان حتى أنه يوجد متجر لبيع الشاورما هنا!. الأبنية سليمة للغاية!، تابعت السير حتى وصلت لحارة ضيقة، انها تحفظ طرقات المدينة القديمة عن ظهر قلب، عكسي تماماً.

من خلال سيرها كانت تقترت من محيط القلعة، ومع اقترابنا بدأ الخراب يزداد بعنف شديد، دشم في كل مكان، كل متجر تحولت واجهته لدشمة، يبدو أنّ هذا المكان كان الخط الأول في المواجهة.

دخلت فوراً إلى بناء من طوابق جزء كبير منه متهدم، كمقطع عرضي في درس علوم، يمكنك أن تشاهد المطابخ ومحتويات الخزن في هذا البناء، شيء ما شطره نصفين.

كانت أسرع مني بالصعود، وصلت لبهو البناء ولم أدري أين هي، ناديت عليها وردت علي، نادتني باسمي الدلع، كان ذلك شيء جميل، ومحبب ولطيف، ناديت عليها مرة أخرى لعلها تناديني مرة أخرى باسمي، لكنها لم تفعل ذلك بل قالت أنا هنا بصوت عال.

تخيلت اشباع جوعها وسط هذا الركام، انها جاهزة قالها ماجد، يبدو أنّ الركام شيء جميل وممتع للغاية بعد كل شيء.

دلفت لمنزل في الطابق الثالث من البناء، كانت الحجارة والزجاج وقطع الاثاث المبعثرة هي الصورة الأولى، لم يتم سرقة شيء لأن بهو البناء يتطلب القفز، من الصعب انزال كل هذا مع وجود تلك الفجوة، كان ذلك تحليلي، لكن مع ذلك كل شي آخر ثمين تم أخذه بالفعل.

كانت تسير من زاوية لزاوية بحذر شديد، أخرجت جوالها وأطلقت شعاعه الفضي وعكس من خلف الظلمة وهج جميل من بين خصال شعرها، كانت تتقدم من كل زاوية وتتفقدها بطرف أصابعها وهي تهمهم. تعاين كل قطعة وتنتقل للأخرى.

أهذا منزلك؟.

نظرت إلي بقلق، ثم أجابت: يمكنك أن تقول ذلك، تقدمت بثقة نحو خزانة تحجب غرفة، طلبت مساعدتي، قمنا بدفع الخزانة حتى انقلبت، دخل ضوء ساطع من الغرفة، كل نوافذها مخلوعة، لكن تقريباً محتوياتها كانت في مكانها، السرير ع الأقل.

ومن الغرفة كان هنالك شرفة صغيرة استطاعت الصمود بوجه كل الخراب مطلة تماماً على قلعة حلب من خلف صفوف من الأبنية والشوارع المدمرة. تقدمت بثقة وأمسكت بحافة الشرفة وتنشقت عميقاً الهواء كمن يعيد لنفسه ذكريات عتيقة!. اقتربت منها! كان بالفعل مشهد يدعو لاستنشاق الكثير من الهواء. لقد انتهت الحرب حقاً هنا.

خلعت قميصها بسرعة، وبدا لي قميصها الداخلي وهو يمسك صدرها الصغير بشدة، تباً كم هي يافعة وشابة. الآن!، أيحدث ذلك الآن!، لكن هنا على السرير!، اقتربت من السرير بهدوء ونادتني، تباً ان ذلك يحدث بالفعل!.

ارفع معي قليلاً، قالت.

ماذا تريد من رفع السرير، سايرتها ورفعنا السرير، كان السرير اطار خشبي لصندوق أسفله، هو عنبر في الحقيقة، بعد رفع السرير ورميه جانبا مع أحلامي المتبخرة. فتحت العنبر وأزاحت شراشف عديدة، لتكشف كنز هائل من اللوحات الملونة الجميلة.

هل هي من رسمك!، سألتها وأنا أتأمل احداها، كانت لوحة فريدة لانثى تطل من على الشرفة، تبدو هي نفسها الشرفة، لا يعقل أن يكون ذلك رسمك، لكن الانثى التي تقف على الشرفة هي أنت بالتأكيد.

أهو رسمك؟. أعدت سؤالها!. نظرت إلي بحنان وهي تتأمل احدى اللوحات وتكاد تحضنها، يمكنك أن تقول ذلك.

يمكنني أن أقول ذلك!...

ساعدتها برفع احدى اللوحات ونقلناها إلى الشرفة، ثم ابتعدنا قليلاً ونحن نتأملها من داخل الغرفة والغبار يتلاشى ويستقر على الأرض بهدوء تحت أشعة الشمس. أمسكت يدي بسرعة وشدت أصابعها، سرت كهرباء فظيعة في جسدي، لماذا فعلت ذلك، أهي جائعة حقاً؟.

نظرت إلي بلطف وقالت بثقة دون حتى أن تسأل، اجلب لنا الغداء، سأكون بانتظارك هنا.

يبدو أنها جوعانة بالنهاية. بدون حتى غمزة ع الأقل.

يتبع.


Report Page