تعهد السجين هل يلزمه؟

تعهد السجين هل يلزمه؟

مجلة بلاغ - العدد السادس عشر - صفر 1442 هـ








الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن من أساليب الطغاة التي انتشرت في العقود الأخيرة أسلوب إجبار المساجين الإسلاميين على التوقيع على ورقة تعهد قبل الخروج من السجن، تتضمن هذه الورقة عادة التزاما بعدم فعل أمور معينة؛ مثل: الجهاد، أو الدعوة إلى الله، أو الخروج من المنطقة، أو العمل مع جماعة إسلامية ما، أو الفتيا، أو يتعهد بالتبليغ عمن له نشاط إسلامي..، ويوهم السجانون ذاك السجين أن التزامه بهذا التعهد هو واجب شرعي أمر به الله جل وعلا لقوله تعالى: )وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا(.

لذا اقتضت الحاجة تدارس هذا العهد الذي يوقعه السجين وآثاره، فيما يلي:

* أولا: فضل الوفاء بالعهد:

العهد هو كما قال ابن منظور في لسان العرب: "كُلُّ مَا عُوهِدَ اللهُ عَلَيْهِ، وكلُّ مَا بَيْنَ العبادِ مِنَ المواثِيقِ". وقال ابن عاشور في تفسيره: "الْعَهْد الْوَعْدُ الْمُوَثَّقُ بِإِظْهَارِ الْعَزْمِ عَلَى تَحْقِيقِهِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ تَأْكِيدٍ".

والوفاء بالعهد هو كما قال الشوكاني في فتح القدير: "الْقِيَامُ بِحِفْظِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَالْقَانُونِ الْمَرْضِيِّ، إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ النَّقْضِ".

- وقد حث الإسلام على الوفاء بالعهد وجعله من خصال المؤمنين وجعل الغدر من خصال المنافقين؛ قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ).

وقال سبحانه: (وَأوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).

وقال جل وعلا: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

ووصف سبحانه الأبرار بقوله: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا).

وقال صلى الله عليه وسلم: «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» متفق عليه.

والوفاء بالعهد درجات كما أن عدم الوفاء دركات؛ فليس عهد الله كعهد البشر، وليس عهد الزواج كعهد الصداقة، وليس العهد المؤكد كالعهد العابر، ولمباحث الوفاء بالعهد صلة بمباحث الأيمان والنذور والعقود والشروط؛ فبين العهد وتلك المصطلحات تداخل وتشابه في كثير من التأصيلات والتفريعات والمسائل.

* ثانيا: السجن إكراه:

من المؤثرات التي تتعلق بالأفعال وتؤثر في الأحكام الشرعية الإكراه؛ حيث إن الإكراه يؤدي لنقص في الأهلية وتترتب عليه آثار في اعتبار أقوال وأفعال المكره، ومن صور الإكراه السجن، والأصل في تعهد السجين أنه تعهد تحت إكراه.

قال ابن حجر في فتح الباري: "الإكراه، هو إلزام الغير بما لا يريده..، واختلف فيما يهدد به؛ فاتفقوا على القتل وإتلاف العضو والضرب الشديد والحبس الطويل، واختلفوا في يسير الضرب والحبس كيوم أو يومين".

وقال ابن رجب: "لو تلفظ الأسير بكلمة الكفر ثم ادعى أنه كان كرها فالقول قوله؛ لأن الأسر دليل الإكراه والتقية".

وقال ابن تيمية في الفتاوى: "أَقْوَالُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَغْوٌ عِنْدَنَا: مِثْلَ كُفْرِهِ وَطَلَاقِهِ وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الْبَيِّعَانِ عَلَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ".

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "إذا أكره بغيرِ حقٍّ على قولٍ من الأقوال، لم يترتب عليه حكمٌ مِنَ الأحكام وكانَ لغواً، فإنَّ كلامَ المكرَه صدرَ منه وهو غيرُ راضٍ به، فلذلك عُفيَ عنه، ولم يُؤاخَذْ به في أحكام الدُّنيا والآخرة. وبهذا فارق النَّاسي والجاهل، وسواء في ذلك العقود: كالبيع، والنكاح، أو الفسوخ: كالخُلع والطَّلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنُّذور، وهذا قولُ جمهور العلماء، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد".

وقال ابن حجر الهيتمي في الفتح المبين: "جمهور العلماء: أن جميع أقوال المكرَه لغوٌ لا يترتب عليها مقتضاها، سواء العقود والفسوخ وغيرها، والأصح عندنا كالجمهور: أن المكره لا يحنث أيضًا، واستدل له الشافعي فقال: قال الله جل ثناؤه: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) وللكفر أحكامٌ، فلما وضع الله تعالى الإثم سقطت أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو الأصغر منه".

* ثالثا: تعهد السجين:

الأصل في تعهد السجين أنه تعهد وقع تحت الإكراه، فينقسم حينها التعهد إلى الأقسام التالية:

1- إن كان إكراه السجين على التعهد بحق وجب عليه: مثل التعهد بسداد دين وجب عليه، أو الامتناع عن ظلم سبق وقام به، أو المحافظة على الفرائض وما شابه ذلك، فالتعهد صحيح ويجب الوفاء به، والوفاء بالعهد للناس هذا فرع من الوفاء بالعهد لله جل وعلا والاستجابة لإمره، قال السيوطي في الأشباه والنظائر: "الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ لَهُ، وَتَحْتَ ذَلِكَ صُوَرٌ: الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَذَانِ، وَعَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءِ وَأَرْكَانِ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالدَّيْنِ وَبَيْعِ مَا لَهُ فِيهِ، وَالصَّوْمِ، وَالِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى رَقِيقِهِ، وَبَهِيمَتِهِ، وَقَرِيبِهِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ..، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْجِهَادِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ".

2- إن كان إكراه السجين على التعهد بفعل معصية: مثل ترك الجهاد في سبيل الله تعالى وهجران إخوانه والتجسس على المسلمين، فالتعهد باطل يحرم الوفاء به، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ).

وقال صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» متفق عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» رواه الترمذي وابن ماجه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ» متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ» رواه مسلم.

وعدم الوفاء بالعهد المخالف للشرع محل اتفاق بين العلماء في الأصل وإن وقع بينهم خلاف في تنزيل ذلك على الوقائع، قال ابن تيمية في الفتاوى: "الأعمال لا بد أن تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله، فإذا كانت منهيا عنها لم يجز الوقف عليها ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر ونحو ذلك ليس فيه نزاع بين العلماء أصلا، ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ» ومن أصوله ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن يشترطوا الولاء لغير المعتق، فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق» وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود ليس ذلك مخصوصا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه الله على عباده بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه أو النهي عما أمر به أو تحليل ما حرمه أو تحريم ما حلله فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود؛ الوقف وغيره".

وقال رحمه الله في الفتاوى: "أما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين؛ إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة".

وقال ابن حزم في الإحكام: "من التزم في عهده وشرطه وعقده ووعده إحلال الخنزير والأمهات وقتل النفس فإن أباح ذلك كفر..، من التزم في عهده وعقده وشرطه إسقاط الصلوات وإسقاط صوم شهر رمضان وسائر ذلك فمن أجاز ذلك فقد كفر..، من نذر أو عقد أو عاهد أو شرط أن يزني أو يكفر أو يقتل مسلما ظلما أو أن يأخذ مالا بغير حق أو أن يترك الصلاة فإنه لا يحل له الوفاء بشيء من ذلك؛ لأنه معصية".

فإذا كان العهد المحرم لا يجوز الوفاء به في حال الاختيار فعدم جواز الوفاء به في حال الإكراه أولى.

وقد اشتهر بحث الفقهاء مسألتين تتعلقان بذلك؛ المسألة الأولى: إذا أعطى الأسير المسلم في أرض الحرب للكفار عهدا ألا يفر، هل له أن يفر؟  والمسألة الثانية: إذا نزل أهل الحرب دار الإسلام بعهد ومعهم أسارى مسلمون فهل لهم أن يعودوا بهم إلى دار الحرب؟ وهذا نقل لبعض كلامهم في المسألتين:

المسألة الأولى: إذا أعطى الأسير المسلم في أرض الحرب للكفار عهدا ألا يفر، هل له أن يفر؟

اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء -وهو الأظهر- على أن له أن يفر، وهذا قول الأحناف والشافعية وبعض المالكية ورواية عند الحنابلة وقول ابن حزم.

قال الشافعي في الأم: "وَإِذَا أَسَرَ الْعَدُوُّ الرَّجُلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَأَمَّنُوهُ وَوَلَّوْهُ ضِيَاعَهُمْ أَوْ لَمْ يُوَلُّوهُ فَأَمَانُهُمْ إيَّاهُ أَمَانٌ لَهُمْ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ وَلاَ يَخُونَهُمْ. وَأَمَّا الْهَرَبُ بِنَفْسِهِ فَلَهُ الْهَرَبُ..، وَإِذَا أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمَ فَخَلُّوهُ عَلَى فِدَاءٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهِمْ إلَى وَقْتٍ وَأَخَذُوا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَدْفَعْ الْفِدَاءَ أَنْ يَعُودَ فِي إسَارِهِمْ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ فِي إسَارِهِمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ أَنْ يَدَعَهُ وَالْعَوْدَةَ، وَإِذَا كَانُوا امْتَنَعُوا مِنْ تَخْلِيَتِهِ إلَّا عَلَى مَالٍ يُعْطِيهُمُوهُ فَلاَ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ مَالٌ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ...، إذَا أُسِرَ الْمُسْلِمُ فَأَحْلَفَهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَثْبُتَ فِي بِلَادِهِمْ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يُخْلُوهُ فَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا فَلْيَخْرُجْ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ يَمِينُ مُكْرَهٍ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى حَبْسِهِ وَلَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُمْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِوَاسِعٍ أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمْ إذَا قَدَرَ عَلَى التَّنَحِّي عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَمَّنُوهُ فَهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْهُ، وَلَا نَعْرِفُ شَيْئًا يُرْوَى خِلَافَ هَذَا".

وقال السرخسي في شرح السير الكبير: "لَوْ قَالُوا لَهُ نُخَلِّي سَبِيلَك وَنُؤَمِّنُك وَتُؤَمِّنُنَا عَلَى أَلَّا تَخْرُجَ مِنْ بِلَادِنَا، فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ".

القول الثاني: ذهب بعض المالكية والحنابلة إلى أن الأسير إذا أعطى الكفار عهدا في دار الحرب أنه لن يفر فيفي لهم بالعهد ولا يفر، وقد نقل ابن المناصف المالكي في كتاب الإنجاد في أبواب الجهاد قول المالكية واختلافهم، ثم رجح قول الجمهور السابق، فقال: "اختلف أصحاب مذهب مالك في الأسير من المسلمين في دار الحرب يكون مُخلًّى: هل يجوز له أن يَعْدُوَ على ما يستطيع فيهم من مالٍ ونفسٍ، ويهرب؟ قال ابن القاسم: الذي كنا نحفظه من قول من نرضى -وأنا أشك أن يكون مالكاً-، أنه إن كان أُرسل على أمانٍ، لم يحلَّ له أن يهرب، ولا أن يأخذ من أموالهم شيئاً، وإن أرسلوه على غير أمان، بمنزلة ما يملكون من الرقيق قوة عليه لا يخافونه؛ فليقتل وليأخذ ما شاء. فهذا التفريق من مالكٍ رحمه الله لا يعدو القانون المتقدم، وهو مراعاة اطمئنانهم: هل هو تعويلٌ على ائتمانه والثقة به، فلا يجوز له مع ذلك فعل شيء مما ينافي ذلك؛ لأنه يكون خيانة، أو إنما وَثِقُوا بِقُوَّتهم عليه وضبطهم، فيكون حينئذٍ: لا حرج عليه فيما فعل من ذلك كلِّه. وعنه في المسألة قولٌ ثانٍ، روى مطرفٌ وابن الماجشون عن مالكٍ: أن له أن يهرب بنفسه، وإن أطلقوه على وجه الائتمان له والطمأنينة إليه، ما لم يأخذوا على ذلك عهده. وجه هذه الرواية: أنه رأى اطمئنانهم إليه وائتمانهم عاملاً في ألا يخونهم في شيءٍ من دَمٍ أو مالٍ، ولم يرَ ذلك عاملاً في الفرار بنفسه؛ لأنه واجب عليه لا يحل له الإقامة مع الكفَّار مع إمكان الفرار، وفيها قولٌ ثانٍ للمخزومي وابن الماجشون: أنَّ له أن يهرب ويأخذ من أموالهم ما قدر عليه، ويقتل إن قدر، وإن ائتمنوه ووثقوا به واستحلفوه، فهو في فسحةٍ من ذلك كله، ولا حنث عليه في يمينه؛ لأن أصل أمره الإكراه، فهذا القول منصوصٌ فيه على توجيهه: وهو مراعاة الإكراه؛ لأن الأسير مغلوبٌ، لا يملك من أمره شيئاً، فهو مكره لم يُعط ذلك عن اختياره، والمُكْره في سَعَةٍ مما أُكره عليه، فذلك هو العلة عندهم في استباحة ما رأوه مباحاً له. فأما قولهم في إباحة الهروب له فظاهر؛ لأنه واجبٌ عليه ألا يقيم معهم، ولا وفاء بمعصية، وأما إباحة ما وراء ذلك من أموالهم، ودمائهم، بعد أن أخذوا عهده واستحلفوه: فباطل، والوفاء عليه واجب؛ لأنه لا ضرورة إلى ذلك، ولا حجَّة في أنه كالمكره على إعطاء العهد..، قال الشافعي: أمَّنوه، فأمانهم إياه أمانٌ لهم منه، وليس له أن يغتالهم ولا يخونهم، فأما الهرب بنفسه: فله الهرب..، وهذا أرجح الأقوال في ذلك، للأدلة التي قدمنا".

المسألة الثانية: إذا نزل أهل الحرب دار الإسلام بعهد ومعهم أسارى مسلمون فهل لهم أن يعودوا بهم إلى دار الحرب؟

جمهور العلماء على منعهم من العودة بأسارى المسلمين، والخلاف في هذه المسألة أضعف من الخلاف في التي قبلها، بل نص الشافعي رحمه الله في الأم أنه "إِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ مَمْلُوكَةٌ أَوْ مَمْلُوكٌ فَأَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَجْبَرْتُهُ عَلَى بَيْعِهِمَا أَوْ بَيْعِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا وَدَفَعْت إلَيْهِ ثَمَنَهُمَا، وَلَيْسَ لَهُ أَمَانٌ يُعْطى بِهِ أَنْ يَمْلِكَ مُسْلِمًا، وَأَمَانُ الذِّمِّيِّ الْمُعَاهَدِ أَكْثَرُ مِنْ أَمَانِهِ وَأَنَا أُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ مَمَالِيكِهِ"؛ ورأي الإمام مالك هنا يوافق رأي الجمهور خلافا لرأيه في المسألة السابقة، قال ابن المناصف المالكي في كتاب الإنجاد في أبواب الجهاد: "اختلفوا في الحربي المستأمن يقدم بأسرى مسلمين أحرار أو عبيد؛ فقيل:

- يُحال بينه وبينهم، ويخلى سبيل الأحرار، ويردُّ العبيد على ساداتهم، ولا يعطى المستأمن عوضاً عن ذلك شيئاً، وعلى هذا ينبغي أن يكون تأمينهم والعهد معهم، فإن عقد على غير هذا فالعقد فاسد، وانتزاعهم على كلِّ حال واجب، ولا وفاء في معصية؛ وهو قول أهل الظاهر.

- وقيل: لا يعترض في شيء من ذلك على حال، ويكون له الرجوع بهم إن شاء؛ وهو قول ابن القاسم.

- وقيل: يُنتزعون منه، ويُعطى في كلِّ مسلمٍ أوفرَ قيمة، قاله عبد الملك بن الماجشون، ورواه عن مالك، وكذلك قال ابن حبيب، قال: ويباع عليه عبيده إذا أسلموا، وكذلك يفعل بالذِّميِّ، ثم لا يكون ذلك نقضاً للعهد.

- وفرَّق بعضهم فقال: يُجبر على بيع المسلمات، ولا يُجْبَرُ في الذكران، وهي روايةٌ عن ابن القاسم، وقاله ابن القصَّار.

- والأرجح إن شاء الله: ما ذهب إليه ابن الماجشون ورواه عن مالك وقاله ابن حبيب؛ لأن الوفاء لهم بالأمان واجبٌ في النفس والمال، ما لم يعترض ذلك معصية لله عز وجل، فَتَرْكُ المسلم في أيديهم مع التمكن من إرساله معصيةٌ، واغتيالهم فيه من غير عوضٍ خيانة، ولما كان لنا فيما أوجبه الله تعالى من فكِّ الأسارى طريقان: واحدة من جهة المحاربة والقهر، وأخرى من جهة بذل المال والفداء، ولم يكن هؤلاء من أهل الحرب: تعيَّن إرساله؛ وبذل قيمته، قياماً بالفرضين: إنقاذ المسلم، والوفاء في العِوَضِ".

وقد شنع ابن حزم في الإحكام على قول ابن القاسم من المالكية بلزوم مثل ذلك العهد، فقال: "والعجب كل العجب من المالكيين القائلين: إنه إن نزل عندنا كفار حربيون بأمان وعندهم أسارى رجال ونساء مسلمون ومسلمات أنهم لا ينتزعون منهم ويتركون ويردونهم إلى بلادهم ولا يمنعون من الوطء، قال أبو محمد: ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذا القول الملعون الذي تقشعر أجساد المسلمين من سماعه فكيف من اعتقاده، فليت شعري لو عاهدوهم على نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلب المساجد كنائس أو على تعليق النواقيس في المآذن أتراهم كانوا يرون الوفاء لهم بهذه العهود؟!..، وقد علمنا أنه لا ظلم للمسلم ولا إسلام له ولا خذلان له ولا تضييع لحاجته ولا أتم لكربته ولا فضيحة له ولكل مسلم ولا أشد خلافا على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من ترك المسلم والمسلمة عند المشرك يذلها ويطؤها".

* إذن لا يجوز الوفاء بعهد السجين على فعل معصية، أما مسألة الإكراه والضرورة التي تلجئ لفعل تلك المعصية بعد خروج السجين، فهذه تُبحث في باب الإكراه والضرورة والموازنة بين المصالح والمفاسد، وليس في باب الوفاء بالعهد.

3- إن كان إكراه السجين على التعهد بفعل لا يجب عليه ولا يحرم: مثل ترك جهاد كفائي قام من يسده، أو الانتقال من بلد إلى آخر، فالتعهد غير لازم له؛ لأنه مكره، ولكن يشرع أن يسدد ويقارب بالمعروف حفظا لحق العهد وصيانة للعهود من الابتذال، مع ملاحظة أنه كلما كان الفعل أقرب للمشروع كان الوفاء به أولى وكلما كان الفعل أقرب للممنوع كان أقل مرتبة.

ويدل على التسديد والمقاربة في الوفاء بالعهد في مثل هذه الحالة، ما رواه مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: «مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ»، قال النووي في شرح مسلم: "وَأَمَّا قَضِيَّةُ حُذَيْفَةَ وَأَبِيهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ اسْتَحْلَفُوهُمَا لَا يُقَاتِلَانِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ لِلْإِيجَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِتَرْكِ الْجِهَادِ مَعَ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ، وَلَكِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا يَشِيعَ عَنْ أَصْحَابِهِ نَقْضُ الْعَهْدِ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشِيعَ عَلَيْهِمْ لَا يَذْكُرُ تَأْوِيلًا".

وقال البيهقي في السنن: "«انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ بِاللهِ عَلَيْهِمْ».. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ انْصِرَافُهُمَا إِلَى تَرْكِ فَرْضٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُمَا وَاجِبًا عَلَيْهِمَا، وَلَا إِلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ".

وقال ابن القيم في زاد المعاد: "وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ أَنَّ أَعْدَاءَهُ إِذَا عَاهَدُوا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدٍ لَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، أَمْضَاهُ لَهُمْ، كَمَا عَاهَدُوا حذيفة وَأَبَاهُ الحسيل أَنْ لَا يُقَاتِلَاهُمْ مَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ".

وحذيفة رضي الله عنه أخبرهم أنه لا يريد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الحقيقة يريده، وأخذوا منه عهد الله وميثاقه لينصرفن للمدينة، ومع ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وذلك يدل على اعتبار عارض الإكراه.

ويستدل للتخلص من هذا العهد الواقع أصلا تحت الإكراه بأنه أقل رتبة من اليمين التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» رواه مسلم.

وبناء على هذا قال سحنون كما في النوادر: "وإذا أطلقوه من وثاق بعهد.. على ألا يجاهدهم لم يلزمه، وله أن يجاهدهم. قال: وله أن يعاهدهم على ذلك لينجو ولا يلزمه، ثم قال بعد ذلك: وأحب إلي ألا يغزوهم إلا في ضرورة تنزل بالإسلام".

وتُلاحظ في هذا النوع المصلحة المترتبة على الوفاء بالعهد والمفسدة المترتبة عليه، فيصار إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد حسب منازلها المعروفة في أصول الفقه.

ويستحسن في هذا العهد غير اللازم لمن أراد نبذه إعلام الطرف الآخر بنبذ العهد استئناسا بقوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، ويستأنس لطريقة النبذ بالنبذ في العهد الصحيح، كما قال الزيلعي في تبيين الحقائق: "وَيَكُونُ النَّبْذُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ الْأمان؛ فَإِنْ كَانَ مُنْتَشِرًا يَجِبُ أَنْ يَكُونُ النَّبْذُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَشِرٍ بِأَنْ أَمَّنَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا يَكْتَفِي بِنَبْذِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ..، ثُمَّ بَعْدَ النَّبْذِ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِمْ زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَلِكُهُمْ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْ حُصُونِهِمْ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَفِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ خَرَّبُوا حُصُونَهُمْ بِسَبَبِ الْأَمَانِ فَحَتَّى يَعُودُوا كُلُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ وَيَعْمُرُوا حُصُونَهُمْ مِثْلَ مَا كَانَتْ تَوَقِّيًا عَنْ الْغَدْرِ".

- وينبغي التنبه إلى أنه قد تقترن بالعهد أمور أخرى فتتغير أحيانا بعض تفاصيل الحكم وتحتاج كل جزئية من الواقعة لفتوى خاصة وقد لا تتغير تفاصيل الحكم؛ مثل أن يقترن بالعهد أمان أو كفالة أو تصرف في بيع...، ولهذا نجد أن الشافعي رحمه الله نص على أن العهد الذي أعطاه الأسير على أن يبقى في دار الحرب ولا يتعرض لهم يبطل في جزئية البقاء في دار الحرب فيجوز له الهرب إلى دار الإسلام، ويصح في جزئية الأمان فلا يجوز له وهو في دار الكفر أن يتعرض لهم اختيارا بقتل أو ما شابه؛ لأن الأمان في الشريعة ينعقد بما ينعقد به العهد وينعقد بأمور لا تكفي لانعقاد العهد ولكنها تكفي لانعقاد الأمان.

* خلاصة المسألة:

 أن الأصل في تعهد السجين أنه تعهد وقع تحت الإكراه؛

- فإن كان الإكراه على التعهد بحق وجب على السجين، فالتعهد صحيح ويجب الوفاء به.

- وإن كان إكراه السجين على التعهد بفعل معصية، فالتعهد باطل يحرم الوفاء به.

- وإن كان إكراه السجين على التعهد بفعل لا يجب عليه ولا يحرم فالتعهد غير لازم له ولكن يشرع أن يسدد السجين ويقارب بالمعروف حفظا لحق العهد وصيانة للعهود من الابتذال. ويشرع في العهود غير اللازمة إعلام الطرف الآخر بنبذ العهد إن اختار المرء نبذه حسب القدرة.

- وإن اقترنت بالعهد عقود أخرى كالأمان أو الكفالة أو ما شابه ذلك فينبغي النظر حينها في جزئيات المسألة وأثر هذا الاقتران فيها.

والحمد لله رب العالمين.



هنا بقية مقالات العدد السادس عشر من مجلة بلاغ الشهرية لشهر صفر 1442


Report Page