انحراف بوصلة الشدة والرحمة
مجلة بلاغ العدد ٤٠ - صفر ١٤٤٤
الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي المتقين، وقاصم الجبابرة والمتكبرين، والصلاة والسلام على نبي المرحمة والملحمة الأمين، وعلى آله وأصحابه الميامين.. أما بعد؛
فإن الشدة مع الأعداء ومقارعتهم وجهادهم من ناحية، والرحمة بالمؤمنين ونصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر من ناحية ثانية، هما التطبيق العملي لعقيدة الولاء والبراء، ولذلك فإن أي خلل أو انحراف في عقيدة الولاء والبراء سيترجم بانحراف بوصلة الشدة والرحمة.
وفي هذا المقال سأتناول حقيقة هذه البوصلة، وبعض نماذج انحرافها في تاريخنا، ثم بعض صور هذا الانحراف في واقعنا المعاصر، فأقول وبالله التوفيق:
أولا - حقيقة بوصلة الشدة والرحمة:
يعتبر حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم التجلي الأنموذج لهذه البوصلة، قال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) [الفتح 29]، يقول السعدي رحمه الله مفسرا: «يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم ((أشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)) أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك ((تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا)) أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود ((يَبْتَغُونَ)) بتلك العبادة ((فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا)) أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه ((سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)) أي: قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم استنارت بالجلال ظواهرهم ((ذَلِكَ)) المذكور ((مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا. وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم ((كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ)) أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء ((فَاسْتَغْلَظَ)) ذلك الزرع أي: قوي وغلظ ((فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ)) جمع ساق، ((يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ)) من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال ((وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة».
وجاء الوصف نفسه في قوله تعالى: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)) يقول ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: «هذه صفات المؤمنين الكُمَّل، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعزِّزاً على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه (الضَّحُوك القَتَّال) فهو ضحوك لأوليائه قتَّال لأعدائه» ا.هـ.
ثانيا - نماذج لانحراف بوصلة الشدة والرحمة عبر التاريخ:
1 - الخوارج: لعل الانحراف الأول الذي اعترى هذه البوصلة كان في فتنة الخوارج الذين أعملوا السيف في المسلمين وسلم منهم الكفار، وعنهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقتلون أهل الإسلام، ويدَعون أهل الأوثان». وعن أبي مجلز، قال: "بينما عبد الله بن خباب في يد الخوارج؛ إذ أتوا على نخل فتناول رجل منهم تمرة، فأقبل عليه أصحابه فقالوا له: أخذتَ تمرةً مِن تمر أهل العهد!!! وأتوا على خنـزير فنفخه رجل منهم بالسيف، فأقبل عليه أصحابه فقالوا له: قتلتَ خنـزيراً مِن خنازير أهل العهد!!!، قال: فقال عبد الله: ألا أخبركم مَن هو أعظم عليكم حقا مِن هذا؟ قالوا: مَن ؟ قال: أنا!! ما تركتُ صلاة، ولا تركتُ كذا، ولا تركتُ كذا!! قال: فقتلوه!!! قال: فلما جاءهم عليٌّ، قال: أقيدونا بعبد الله بن خباب، قالوا: كيف نقيدك به وكلنا شرك في دمه؟ فاستحل قتالهم" "مصنف ابن أبي شيبة".
2 - ملوك الطوائف في الشام والأندلس وغيرها من بلاد المسلمين: حيث شاع الإرجاء، وعم الترف والركون للدنيا والأعداء، وتم تعطيل الجهاد وترك التحاكم لشرع الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجه، فكان ثمرة ذلك كله وحصاده المر ضياع البلاد والعباد وتسلط الأعداء.
ثالثا - نماذج لانحراف البوصلة في واقعنا المعاصر:
1 - الخوارج والغلاة: فالمتأمل لتجارب الجزائر والشام والعراق وأفغانستان وغيرها يجد نموذجا صارخا لانحراف البوصلة وآثاره الوخيمة.
2 - غلاة المرجئة: من جامية وأشباههم في العراق وليبيا والجزيرة وغيرها؛ حيث اللين والخدمة مع طواغيت الحكم وأسيادهم من المحتلين، والتسلط على المسلمين وشيطنة ثوراتهم وجهادهم وقتالهم.
3 - الأحزاب والجماعات الوظيفية: التي استطاعت المنظومة الجاهلية احتواءها وتدجينها فسلبت قرارها وحولتها لأدوات لتنفيذ تفاهماتها وأجنداتها وحماية مصالحها كما حصل في الجزائر ومصر والشام وتونس وغيرها.
* أخيرا: من المهم التأكيد على أن أصل انحراف بوصلة الشدة والرحمة هو انحراف في عقيدة الولاء والبراء، وبقدر هذا الانحراف تزداد النتائج الكارثية، وإن أي حركة إصلاح لا تركز على إصلاح الخلل العقدي وتصويب بوصلة الشدة والرحمة مصيرها الفشل وإصلاحها المزعوم لا يعدو كونه إصلاحا وهميا مخادعا يكرس واقع الذل مع الأعداء واستمرار تسلطهم والشدة مع أبناء الثورات واستمرار قمعهم وقهرهم ووأد ثوراتهم.
يقول تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [المائدة 54]، والحمد لله رب العالمين.