اليد النجسة

اليد النجسة

مجلة بلاغ- العدد الثاني عشر- شوال ١٤٤١


الأستاذ: غياث الحلبي


كانت ليلة عيد الفطر ليلة متعبة لم تذق فيها عيني طعم النوم؛ فقد كنت ككثيرين غيري منشغلا بإحضار مستلزمات العيد وحاجيات الأطفال لأدخل الفرح إلى قلوبهم وأرسم ابتسامة السعادة على وجوههم، وأُسرّ كثيرا وهم يقبلون يدي، ويقولون: كل عام وأنت بخير بابا.

صليت الفجر ثم بعدها صليت العيد وانطلقت إلى بيتي لأنال قسطا من الراحة، ولم يخل الأمر من إزعاج صغاري بين الحين والآخر لسؤالي: "أبي متى سنخرج لزيارة بيت جدنا وجدتنا ثم زيارة رفاقك".

كان تكرر سؤال صغاري وأنا نائم يدفعني أحيانا لأصرخ بهم، فتأبى علي فرحتهم بالعيد، ويلجم غضبي السرورُ الظاهر على محياهم.

وقبيل الظهر وقد عيل صبر الصغار استيقظت لأرى الصغار جالسين في جانب البيت كالزهور الذابلة، فما أن رأوني نهضت من الفراش حتى عاودهم النشاط فصاروا كالأرض اليابسة وقد اهتزت وربت بعد نزول الغيث.


ارتدى الأطفال ثيابهم الجديدة الجميلة وعلى قسمات وجوههم ابتسامات تجعل ثغورهم تفتر عن أسنان كحب الغمام، ثم خرجنا لزيارة الأهل والأقارب الذين لم يبق منهم أحد؛ فبعضهم مشرد خارج القطر، وبعضهم قد قتل بآلة القتل الوحشية التي ما فتأ النظام النصيري يفتك بها، وبعضهم مقيم في المناطق المحتلة التي ترزح تحت نير النظام الكافر، ولذا يمكن أن نقول: خرجنا لزيارة الأهل والأصدقاء، فقد عوضنا الله عمن لم نستطع زيارتهم من الأقرباء بإخوان صدق تشاركنا معهم الأفراح والأتراح والانتصارات والانكسارات، وسعدنا بصحبتهم وأحببناهم في الله، منهم من هو من أهل البلد ومنهم مهاجرون تركوا بلادهم وأهليهم ومراتع صباهم وجاؤوا لينصروا الشعب السوري الأعزل على الطغاة المجرمين الذين تمالؤوا لوأد ثورته المباركة، فجزاهم الله عنا خيرا.


وبعد جولة من الزيارات عدت للبيت والسؤال الجديد الذي لا يفارق لسان الصغار: "متى سنخرج لإكمال الزيارات ثانية" مع أننا لم ندخل البيت بعد، ولكن ماذا أفعل هكذا هم الصغار، وهكذا كنا عندما كنا صغارا.


وبما أن العيد ليس له مواعيد كما يقال فقد جاء لزيارتنا غلامان لم يتجاوزا الاثني عشر ربيعا من أعمارهما وهما جيران لنا مهجرون من درعا، وقد خرجا بمفردهما؛ لأن أباهما كان متعبا مريضا ولم يشأ أن يحرمهما من فرحة العيد فأذن لهما بزيارة الجيران.

جلس الغلامان، وأخذا يحدثاني عما لقياه عندما كانا في درعا من خوف ونزوح مستمر من قرية إلى أخرى، وذكرا لي كيف قصف النظام بيتهما فدمره، إلى أن انتهى بهما المطاف إلى التهجير القسري إلى إدلب.

ولكن ما لفت نظري في كلام أحد الغلامين وسرني جدا أنه قال لي: لما مررنا على حاجز الروسيين في التهجير القسري قام أحد الضباط الروسيين بمسح شعري وتبسم في وجهي، فامتلأ قلبي بغضا له وحقدا عليه، فأنا أعلم أنه وحش كاسر في مسلاخ بشر، وهو وأمثاله من كان يقصفنا ويدمر قرانا، وقد أجبرونا على الهجرة من ديارنا، وتقززت من يده النجسة الملطخة بدماء الشهداء وهي تمر على شعري، ولذلك كان أول عمل قمت به بعد أن وصلت لإدلب أن حلقت شعري، فلا أريد لشعر مسته يد نجسة آثمة أن يبقى متصلا بي.

انتهت.



هنا بقية مقالات العدد الثاني عشر من مجلة بلاغ



Report Page