الوباء (كورونا) وبعض الأحكام الفقهية المتعلقة به

الوباء (كورونا) وبعض الأحكام الفقهية المتعلقة به

مجلة بلاغ- العدد العاشر- شعبان ١٤٤١


الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير


انتشر في هذا العام 1441هـ، وباء الكورونا في كثير من بقاع الأرض، وتسبب في آلاف الوفيات والإصابات، وتداعى الناس للحذر منه، مما استدعى التذكير ببعض الأحكام الفقهية المتعلقة بهذه النازلة.


* أولا- تعريف الوباء:

الوباء هو كما قال الخليل في كتاب العين، وتبعه كثير من اللغويين هو: "الطاعون، وهو أيضا كل مرض عام"، فكلمة الوباء تطلق على الطاعون وتطلق كذلك على كل مرض عام ولو لم يكن طاعونا، فالوباء أعم من الطاعون، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا.

ومما يشير إلى أن الطاعون قد يدل على بعض أنواع الوباء حديث معاذة بنت عبد الله العدوية، قالت: دخلت على عائشة، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون، قلت: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير» رواه أحمد، لذا قال النووي في شرح مسلم: "وأما الطاعون فهو قروح تخرج في الجسد فتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدي أو الأصابع وسائر البدن ويكون معه ورم وألم شديد وتخرج تلك القروح مع لهيب ويسوَد ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقيء، وأما الوباء فقال الخليل وغيره هو الطاعون وقال هو كل مرض عام، والصحيح الذي قاله المحققون: إنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض في الكثرة وغيرها، ويكون مرضهم نوعا واحدا بخلاف سائر الأوقات فإن أمراضهم فيها مختلفة، قالوا: وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا".

وقال ابن القيم في زاد المعاد: "والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها".

- فالوباء هو مرض عام ينتشر في مكان ما، وليس الوباء هو مجرد وجود مرض لم ينتشر وإن كان هذا المرض قد أصاب أحدا من الناس مثل الجذام والجرب الخاص بشخص أو أشخاص، فإذا تكاثر المرض وعمَّ أصبح وباء.


* ثانيا- الدخول للبلد الذي فيه الوباء والخروج منه:

إذا نزل الوباء ببلد شرع لمن هو في هذا البلد البقاء فيه إلى حين ارتفاع الوباء، وشرع لمن هو خارج بلد الوباء عدم الدخول لبلد الوباء، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناسا من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه» متفق عليه.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، «أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم له، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه-، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه، قال: فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف» متفق عليه.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الطاعون: «غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف» رواه أحمد.

قال النووي في شرح مسلم: "في هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فرارا من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به، وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور، قال القاضي هو قول الأكثرين..، واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ودليله صريح الأحاديث".

وقال الهيتمي في الفتاوى: "ثم ما المراد بكونه في أرض الطاعون حتى يحرم عليه الخروج منها، والذي يظهر في ذلك أنه إن وقع بإقليم حرم عليه الخروج من ذلك الإقليم لا من بعض قراه إلى بعض؛ لأنها كلها بالنسبة إلى عموم الطاعون بمنزلة الموضع الواحد، وإن اختص ببلد أو بلاد من إقليم حرم الخروج مما اختص به إلى غيره لا من بعض ما اختص به إلى بعضه، وإذا كان في بلد مثلا فهل الفرار منها بالخروج إلى خارج عمرانها أو سورها أو إلى خارج مزارعها لم أر في ذلك كالذي قبله شيئا، والذي يظهر أنه يتبع في ذلك عرف أهلها فكل محل عدوا الخروج إليه فرارا حرم الخروج إليه، وإلا فلا، وحكم دخول محل الطاعون كالخروج منه فيما تقرر من التحريم وغيره".

وقال المباركفوري في شرحه للترمذي: "وأحاديث الباب كلها تدل على حرمة الخروج من أرض وقع بها الطاعون فرارا منه، وكذا الدخول في أرض وقع بها الطاعون؛ لأن الأصل في النهي التحريم".

فالخروج من أرض الطاعون منهي عنه، أما الخروج لحاجة وغرض صالح بلا نية الفرار فجائز، وقد سبق نقل قول النووي: "واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار"، وقال ابن القيم في زاد المعاد: "لم يقل أحد طبيب ولا غيره: إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين ويصيرون بمنزلة الجمادات، وإنما ينبغي فيه التقلل من الحركة بحسب الإمكان، والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه، ودَعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه. وأما من لا يستغني عن الحركة كالصناع والأجراء والمسافرين والبُرد وغيرهم، فلا يقال لهم: اتركوا حركاتكم جملة، وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه كحركة المسافر فارا منه"، ولا تنفع الحيلة للفرار من الطاعون، فالله أعلم بالسر وأخفى.


* ثالثا- التخلف عن الجمعة والجماعة في بلد الوباء: 

من رحمة الله جل وعلا بنا أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن أخذ الحذر مطلوب، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، لذا فمع ما ورد من ترغيب وتأكيد على حضور الجمعة والجماعات إلا أنه ورد التخفيف عند المشقة التي هي أدنى من الوباء العام والطاعون، كالمرض والخوف وشدة المطر والريح والبرد والوحل وأكل الثوم أو البصل ومدافعة الأخبثين واجتماع العيد مع الجمعة في يوم واحد..

والأدلة على اعتبار تلك الأعذار كثيرة؛ منها: عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في الرحال. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: ألا صلوا في رحالكم» متفق عليه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: «إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، فكأن الناس استنكروا، قال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض» متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العَشاء فابدؤوا بالعشاء» متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون» رواه أبو داود.

لذا فإنه إذا انتشر الوباء ببلد جاز لمن خاف من المرض أن يتخلف عن الجمعة والجماعة، ويبقى المسجد يُرفع فيه الأذان وتقام فيه الجمع والجماعات بمن حضر للصلاة من الأصحاء، ويكون مرجعا للسائل والمستفتي، ويُرجع إلى القائمين عليه لتجهيز الموتى والصلاة عليهم..، إلى غير ذلك من أدوار مهمة يرتبط فيها المجتمع المسلم بالمسجد وينطلق منه للتعامل مع الأحداث والمستجدات؛ فقد عُلم بالضرورة أن الناس في الوباء تحتاج للطعام والشراب والدواء وضرورات الحياة فتخرج لطلبها، ودور المسجد في الأمة والحاجة له لا يقل عن تلك الاحتياجات، فيبقى مفتوحا، فالعزيمة لا تنافي الرخصة، مع التنبيه على من حضر المسجد أن يراعي الاحتياطات المفيدة في التعامل مع الوباء.

- وقد انتشر في الآونة الأخيرة صدور تعميمات من حكام كافرين أو جهلة مسلمين تمنع فتح المساجد للصلاة بدعوى مواجهة الوباء، وهؤلاء وأولئك لا ولاية لهم على المساجد ولا يعتد بأمرهم، ويتعاطى المسلمون مع تلك القرارات الأمنية وفق موازين المصالح والمفاسد والضرر المتوقع على من خالف تلك التعليمات من قبل الأجهزة القمعية المجرمة.

- وتخلف من أراد الأخذ بالرخصة هو فيمن خاف على نفسه المرض في بلد الوباء، ويُعرف هذا الخوف بأن المرء الخائف يمتنع في هذا البلد عن حضور ما لا ضرورة له من تجمعات في المدارس والجامعات والحدائق والمطاعم وصالات الألعاب والأعراس والولائم والمواصلات العامة.. وما شابه ذلك، أما أن يعيش المرء حياته المعتادة قبل الوباء ويمتنع عن حضور الجمع والجماعات بحجة الخوف فهذا أمر لا يستقيم. 

- والأفضل لمن ترك صلاة الجماعة في بلد الوباء في المسجد أن يصليها جماعة مع من يقيم معه كالأهل وزملاء العمل، فصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد.

- أما صلاة الجمعة فلا حاجة لتكلف إقامتها في المنازل والتجمعات الصغيرة لمن لم يحضر صلاة الجمعة؛ لأن هذا يخالف صفة شعيرة الجمعة، ولم يعرف في القرون الأولى أن تقام الجمعة في البيوت وما شابهها عند وجود العذر..

- ومما ينبغي التذكير به أن هذا الكلام متعلق بخوف حقيقي، أما الخوف الناتج عن الهلع والجزع الذي أصاب كثيرا من المجتمعات قبل أن يدخل لها الوباء أصلا أو بعد أن دخل ولكنه نادر جدا لم يتحول لوباء فلا يدخل في الرخصة المذكورة. 


- ومن عجيب ما رواه المؤرخون عن المساجد في الوباء، ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية عن وباء سنة 449؛ حيث قال: "وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا..، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون..، وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحدا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك، وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن".


* رابعا- القنوت في الصلاة عند نزول الوباء:

الدعاء عند نزول البلاء من أفضل العبادات، قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، وقال جل وعلا: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)، وقال جل وعلا: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)..

ويشرع الدعاء بالعافية وصلاح المعاش، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، و« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء» متفق عليه..

- ويشرع للمرء أن يكثر من صلاة النافلة عند المحن، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)، و «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى» رواه أبو داود.

- أما القنوت في الصلاة فيشرع القنوت عند النازلة؛ لحديث أنس رضي الله عنه، قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان» متفق عليه، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع» رواه البخاري، وثبت القنوت عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

والقنوت عند النازلة في الصلوات الخمس هو المشهور عند الشافعية، قال النووي في المجموع ذاكرا مذهب جمهور الشافعية: "الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور: إن نزلت بالمسلمين نازلة كخوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحو ذلك قنتوا في جميعها وإلا فلا". وقال ابن نجيم في البحر الرائق: "قال جمهور أهل الحديث: القنوت عند النوازل مشروع في الصلوات كلها".

ورغم أن المشهور عند الحنابلة القنوت للنوازل إلا أنهم استثنوا الطاعون فرأوا عدم القنوت عند نزوله؛ لأنه شهادة فلا يدعى برفع الشهادة، ولأنه لم يرد أن الصحابة قنتوا في طاعون عمواس.

ولكن الذي يظهر أنه يقنت عند الطاعون، وكونه شهادة لا يمنع الدعاء برفعه عن الأمة، فالجهاد كذلك سبب للشهادة فإذا تسلط العدو الكافر على دماء المسلمين فإننا ندعو الله أن يرفع ذلك عن الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» متفق عليه، وعدم ورود دليل خاص على القنوت في طاعون عمواس لا ينفي عدم الوقوع ولا يعارض الأصل العام في القنوت عند النوازل، ولذا قال ابن نجيم الحنفي في الأشباه والنظائر: "القنوت عندنا في النازلة ثابت، وهو الدعاء برفعها، ولا شك أن الطاعون من أشد النوازل".

- وبالعموم فالأمر أعم من القنوت، والاجتهاد في الدعاء عند نزول البلاء مقصد من مقاصد الشرع، وقد فشا في الزمن المتأخر الجفاء وقسوة القلب وقلة المتضرعين حقا لله تعالى، فلا بأس بتعدد الوسائل التي فيها تذكير الناس بالدعاء وتشجيعهم عليه وترغيبهم فيه، وهناك فرق بين الوسائل والبدع؛ فباب الوسائل واسع ومن علامة الوسائل المباحة أنها غير مقصودة لذاتها ولا يُعتقد مشروعية الوسيلة وفضلها بعينها ويتم التنويع في طرقها حسب النفع ولا تبقى ثابتة، خلافا للبدع التي تقصد لذاتها ويعتقد الفضل في القيام بهيئتها المبتدعة..


* خامسا- مخالطة المريض بالوباء:

كل ما يقع في الكون هو بقضاء الله وقدره، ولا يخرج شيء عن حكمه وتدبيره سبحانه وتعالى، والوباء يقع بتقدير الله جل وعلا ويرتفع بأمره كذلك، وقد جعل الله سبحانه وتعالى في الكون أسبابا وأجرى سبحانه نتائج لمن شاء. والوباء لا ينتشر إلا بإذنه سبحانه وتعالى، وعدم مخالطة المريض من الأسباب التي جعلها سبحانه وسيلة لعباده يستخدمونها عند وقوع الوباء والأمراض التي من أسباب انتشارها المجالسة والمخالطة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يورد مُمرِض على مُصِح» متفق عليه، وعن الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه، قال «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك، فارجع» رواه البخاري.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد» رواه البخاري. قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة شارحا الحديث ومبينا الفرق بين اعتقاد الجاهلية والإسلام: "إنَّ القوم كانوا يثبتونَ العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل، كما يقوله المنجِّمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسُعودها ونحوسها..، ولو قالوا: إنها أسبابٌ أو أجزاءُ أسبابٍ إذا شاء الله صرَف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته، وإنها مسخَّرةٌ بأمره لِمَا خُلِقَت له، وإنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربَط بها مسبَّباتها، وجعَل لها أسبابًا أخرَ تعارضها وتمانعها، وتمنعُ اقتضاءها لِمَا جُعِلَت أسبابًا له. وإنها لا تقتضي مسبَّباتها إلا بإذنه ومشيئته وإرادته، ليس لها من ذاتها ضرٌّ ولا نفعٌ ولا تأثيرٌ البتة، إنْ هي إلا خلقٌ مسخَّرٌ مصرَّفٌ مربوب، لا تتحركُ إلا بإذن خالقها ومشيئته، وغايتُها أنها جزءُ سببٍ، ليست سببًا تامًّا، فسببيَّتها من جنس سببيَّة وطء الوالد في حصول الولد، فإنه جزءٌ واحدٌ من أجزاء كثيرةٍ من الأسباب التي خلقَ الله بها الجنين، وكسببيَّة شَقِّ الأرض وإلقاء البَذْر، فإنه جزءٌ يسيرٌ من جملة الأسباب التي يكوِّنُ الله بها النبات، وهكذا جملةُ أسباب العالَم من الغذاء والدواء والعافية والسَّقم وغير ذلك. وإنَّ الله سبحانه يجعلُ من ذلك سببًا ما يشاء ويبطلُ السببيَّةَ عمَّا يشاء، ويخلقُ من الأسباب المعارضة له ما يحولُ بينه وبين مقتضاه. فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه لما أُنكِرَ عليهم".

- ومما يُستأنس به في ترك المخالطة عند الوباء ما ورد في حديث الطاعون من الترغيب في المكوث في "البلد" وفي رواية في "البيت"، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون. فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من رجل يقع الطاعون، فيمكث في "بيته" صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد» رواه أحمد.

قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "قال بعض العلماء: هذا الحديث يدل أنه يفرق بين المجذوم وامرأته إذا حدث به الجذام وهي عنده لموضع الضرر إلا أن ترضى بالمقام معه".

- ونقل ابن رشد الجد في البيان والتحصيل أقوال العلماء في مسألة المخالطة، ومختصر ما رجحه هو: "مسألة وسئل: عن المبتلى يكون في منزل له فيه سهم، وله حظ في شرب فأراد من معه في المنزل إخراجه منه، وزعموا أن استسقاء الماء من مائهم الذي يشربون منه مضرة بهم فطلبوا إخراجه من المنزل؟.. قال محمد بن رشد:.. إذا كان له مال أُمر بأن يشتري لنفسه من يقوم بأمره ويخرج له ويستسقي له ماءه أو يستأجر له من يفعل له ذلك كله، فإن لم يكن له مال كان من الحق على الإمام أن يقوم له بذلك من بيت مال المسلمين؛ لأن استسقاءه الماء معهم من مائهم ضرر بهم، فإن لم يكن ثَم إمام يقوم له بذلك لم يُمنعوا من استسقاء الماء فيموتوا عطشاء، ولا من مخالطة الناس في مجتمعاتهم وأسواقهم لسؤالهم وقضاء حوائجهم فيهلكون ضياعا، وإنما اختلف في منعهم من المساجد والجوامع..، قال سحنون..: يمنعون من ذلك وتسقط الجمعة عنهم، واستدل على ذلك بحديث النبي عليه السلام: «من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يوفينا بريح الثوم» وبحديث عمر في قوله للمرأة المجذومة: لو جلست في بيتك كان خيرا لك...، وقوله أظهر؛ لأن المنع من إذاية المسلمين واجب، وإذا كان المنع من إذايتهم بريح الثوم واجبا بالسُّنة، فأحرى أن يكون واجبا من إذايتهم بمخالطة الجذماء لهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلول الممرض على المصح، وفي قول عمر رضي الله عنه للمجذومة: يا أمة الله لا تؤذي الناس- دليل على أنه أراد بقوله لها: لو جلست في بيتك، الأمر لها بذلك والقضاء عليها به..، واختلف في إخراجهم عن الحاضرة إلى ناحية منها..، قال عبد الملك: والحكم عليهم بتنحيتهم ناحية إذا كثروا أحب إلي، وهو الذي عليه الناس".

- وقد وردت في مخالطة الصحيح للمصاب بتلك الأمراض بعض الأحاديث والآثار في معظمها ضعف، وحسن بعضها بعض أهل العلم، منها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة ثم قال: باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه» رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث غريب، وذكر أنه رُوي موقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق آخر أصح، والحاكم وصححه، وضعفه الألباني.

ومن الآثار ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح، عن عكرمة: "أن ابن عباس لزق بمجذوم، فقلت له: تلزق بمجذوم؟ قال: فأمض، وقال: لعله خير مني ومنك"، وهناك آثار أخرى يستأنس بها في جواز مخالطة المجذوم عن عائشة وعمر وابن عمر وسلمان رضي الله عنهم.

- فنخلص من ذلك أن المصاب في الوباء يمنع من مخالطة الناس لغير ضرورة، أما الصحيح الذي يريد أن يخالط المصاب بغير سبب ففعله مكروه خلاف السنة.


* سادسا- التصرفات المالية في بلد الوباء:

تكلم العلماء عن التصرفات المالية في بلد الوباء كالهبة بما فوق ثلث المال، وكذلك التبرع للوارث، والذي يظهر أن من لم يظهر عليه المرض في تلك البلد تصرفاته نافذة، أما من أصيب بمرض يخشى عليه من الموت فتصرفاته مثل المريض مرض الموت، فيتوقف تصدقه بأكثر من ثلث ماله وتبرعه لوارث على إمضاء الورثة بعد الموت.

وقد ذكر ابن حجر في بذل الماعون الأقوال في المسألة وأن أكثر العلماء على أن من لم يصب بالمرض تصرفاته صحيحة، وأن من أصيب بالوباء تصرفاته كتصرفات المريض مرضا مخوفا، خلافا لمتأخري الشافعية، فقال بعد أن سرد بعض أقوال الشافعية والحنابلة: "المسألة منقولة في كتب المالكية وعندهم فيها روايتان، والمرجح منهما عندهم أن حكمه حكم الصحيح. وأما الحنفية فلم ينصّوا على خصوص المسألة، ولكن قواعدهم تقتضي أن يكون الحكم كما هو المصحح عند المالكية. هكذا قال لي جماعة من علمائهم. وتحصّل من ذلك أن المرجّح عند متأخري الشافعية مرجوح عند أكثر العلماء من غيرهم"، وقد علق ابن نجيم الحنفي في الأشباه والنظائر على ما نقله ابن حجر عن علماء الأحناف بقوله: "غاية الأمر في الطاعون أن يكون من نزل ببلدهم كالواقفين في صف القتال؛ فلذا قال جماعة من علمائنا لابن حجر: إن قواعدنا تقتضي أن يكون كالصحيح، يعني قبل نزوله بواحد، أما إذا طُعن واحد فهو مريض حقيقة، وليس الكلام فيه إنما هو فيمن لم يُطعن من أهل البلد الذي نزل بهم الطاعون".


* سابعا- إن تعذر علاج مريض الوباء أو دفن الموتى:

من المسائل التي بدأت تثار في بعض الدول العجز عن علاج كل مرضى الوباء، والنقص في الأجهزة الطبية الضرورية للمرضى مقارنة بالأعداد الكبيرة من المرضى، وقيام بعض المشافي بالترجيح بين من يقدمونه للعلاج ومن يتركونه بلا علاج للعجز.

وكذلك وجد في بعض الدول الكافرة أزمة في دفن جثث الموتى لكثرة أعدادها.

وقد عايشتُ في حصار حلب مسائل لها علاقة بذلك؛ فقد كانت أعداد الجرحى تفوق كثيرا الطاقة الاستيعابية للمشافي وأجهزتها، وكذلك كان العدو يهدم البيوت على ساكنيها ويحرق الأحياء فتتعذر الحركة فضلا عن رفع الأنقاض ودفن من تحتها.

- وهذه المسائل من مسائل الضرورة التي تُقدر بقدرها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فالأصل القيام بواجب الإسعاف والمداواة وتكريم الموتى ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلا، فإن عم البلاء وانتشر الوباء وتعذر الأصل، فيقدر العالِم في كل واقع الحال ويفتي بناء على ذلك ويجتهد المرء في تحصيل المصالح وتقليل المفاسد قدر الإمكان؛ فالحي أولى من الميت، والمسلم أولى من الكافر، والتقي أولى من الفاجر، ومن نفعه متعد أولى ممن نفعه قاصر، والمرض الخطير أولى من المرض اليسير، والمأمول شفاؤه أولى ممن العادة عدم شفائه...


* ثامنا- تمني المريض بالوباء استعجال الموت:

يكره لمن أصيب بمرض أن يتمنى استعجال الموت بسبب ذلك المرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه؛ فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا ما كانت الوفاة خيرا لي» متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت؛ إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب» متفق عليه.

قال ابن حجر في فتح الباري: "وقوله: من ضر أصابه، حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي"، فإن كان تمني المريض استعجال الموت رغبة فيما عند الله أو خوفا من الفتنة فالأمر يختلف، فقد قالت عائشة رضي الله عنها عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم الأخير: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلي يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق» متفق عليه.

وصح في موطأ مالك عن سعيد بن المسيب قال: "لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة بطحاء ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط..، قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله".

وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها دخلت على أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنها في مرض وفاته "قال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل" أي تمنى أن يتوفاه الله في هذا اليوم قبل حلول الليل ليوافق يوم وفاته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر في فتح الباري في شرح هذا الحديث: "قال الزين بن المنير: تعيُّن وقتِ الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله مدخل كالرغبة إلى الله لقصد التبرك، فمن لم تحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده".

- فإن عظمت الرغبة فيما عند الله تعالى والخوف من فتن الدنيا وأراد المريض أن يجمع بين الفضائل وتمنى أن يموت شهيدا بالطاعون وشهيدا في الجهاد فلا عليه إن أقدم يقتحم في الجهاد الشرعي المخاطر نكاية في العدو وتحقيقا لمصلحة للإسلام ظاهرة، وفق ضوابط الجهاد المعروفة في مظانها.


* وفي الختام: فهذه نبذ من الأحكام المتعلقة بالوباء وبعض الاختيارات من كلام العلماء، ومن أراد الاستزادة فليرجع للأصول وكلام أهل العلم في مظانه، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل عاقبة هذا الوباء نصرا للإسلام والمسلمين، وذلا للكفار والمشركين، والحمد لله رب العالمين.





هنا بقية مقالات العدد العاشر من مجلة بلاغ

Report Page