النصيحة القيمية في بطلان الإمّعية!

النصيحة القيمية في بطلان الإمّعية!

ابن قيم الجوزية (ت٧٥١ه‍)

إذا كان الله ورسوله ﷺ في جانب؛ فاحذَرْ أن تكون من الجانب الآخر؛ فإن ذلك يُفضِي إلى المشاقَّة والمحادَّة، وهذا أصلها، ومنه اشتقاقها؛ فإن المشاقة أن يكون في شقٍّ ومن يخالفه في شقٍّ، والمحادَّة أن يكون في حدٍّ وهو في حدٍّ.

ولا تَستسهِلْ هذا؛ فإن مبادئه تَجُرُّ إلى غايته، وقليلُه يدعو إلى كثيره!

وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله ﷺ، وإن كان الناسُ كلُّهم في الجانب الآخر؛ فإن لذلك عواقبَ هي أحمدُ العواقبِ وأفضلُها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته.

وأكثر الخلق إنما يكونون من الجانب الآخر، ولا سيما إذا قَويت الرغبةُ والرهبة؛ فهناك لا تكاد تجد أحدًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، بل يَعدُّه الناس ناقصَ العقل سيئَ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرُّسل؛ فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شقٍّ وجانبٍ والناسُ في شقٍّ وجانب آخر.

ولكن من وطَّن نفسَه على ذلك؛ فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينًا له لا ريبَ عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومةِ من لامه، ولا يَتِمُّ له ذلك إلا برغبةٍ قوية في الله والدار الآخرة؛ بحيث تكون الآخرة أحبَّ إليه من الدنيا وآثرَ عنده منها، ويكون الله ورسوله ﷺ أحبَّ إليه مما سواهُما.

وليس شيءٌ أصعب على الإنسان من ذلك في مبادئ الأمر؛ فإنَّ نفسه وهواهُ وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل؛ فإذا خالفهم تَصدَّوا لحربه؛ فإن صبر وثبت جاءه العونُ من الله، وصار ذلك الصعب سهلًا، وذلك الألم لذَّةً؛ فإن الرب شكورٌ؛ فلا بدَّ أن يُذِيقَه لذَّةَ تحيُّزِه إلى الله وإلى رسوله ويُرِيَه كرامةَ ذلك؛ فيشتدَّ به سرورُه وغبطتُهُ، ويبتهج به قلبه، ويظفر بقوَّته وفرحه وسروره، ويبقَى من كان محاربًا له على ذلك بين هائبٍ له ومسالمٍ له ومساعدٍ وتارك، ويَقوَى جندهُ، ويضعُف جندُ العدوِّ.

ولا تَستصعِبْ مخالفةَ الناس والتحيُّز إلى الله ورسوله ولو كنتَ وحدك؛ فإن الله معك، وأنت بعينه وكَلاءتِه وحفظِه لك، وإنما امتحن يقينَك وصبَرك.

وأعظم الأعوان لك على هذا بعد عون الله التجردُ من الطمع والفزع؛ فمتى تجرَّدتَ منهما هان عليك التحيُّزُ إلى الله ورسوله، وكنتَ دائمًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام بك الطمع والفزعُ فلا تَطمَعْ في هذا الأمر، ولا تُحدِّثْ نفسَك به.

فإن قلتَ: فبأيِّ شيءٍ أستعينُ على التجرُّد من الطمع ومن الفزع؟ قلتُ: بالتوحيد، والتوكُّل، والثقة بالله، وعلْمِك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلَّا هو، وأنَّ الأمر كلَّه لله ليس لأحد مع الله شيءٌ.


- الفوائد (١٦٧-١٦٨)

Report Page