المجاهدون الأخفياء

المجاهدون الأخفياء

مجلة بلاغ- العدد العاشر - شعبان ١٤٤١


الشيخ: أبو حمزة الكردي


المجاهدون الأخفياء جند نذروا أرواحهم لله عز وجل ولنصرة دينه والتخفيف عن عباده المستضعفين، فلم تشغلهم مكانة أو سمعة أو رياء أو حب رياسة؛ فكانوا جنودا أخفياء أتقياء أنقياء؛ أخفياء عن أعين الناس ومعرفتهم به، أتقياء اتقوا ربهم تبارك وتعالى فأخلصوا له عبادتهم وجهادهم، أنقياء نقوا أنفسهم من الشوائب والقذارات وترفعوا عن سفاسف الأمور وصغائرها..

فأحبهم الله عز وجل واصطفاهم ليكونوا الصفوة من أهل هذه العبادة السامية؛ فعند مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي"، قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: "من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل"، وهل هناك عمل صالح مثل الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى سادس أركان الإسلام.


وقد جاء في الحديث الصحيح:

"طُوبَى لعبدٍ آخذ بعنانِ فرسِه في سبيلِ اللهِ، أشعثَ رأسُه مُغبَّرة قدماه، إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ، وإن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ، إن شفَع لم يُشفَّعْ، وإن استأذَن لم يُؤْذَنْ له".

قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فإن اتفق له السير سار؛ فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها..، وقوله: إن شفع لم يشفع، فيه ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع". وهذا هو المثال الأسمى للمجاهد الخفي التقي النقي الذي هو قدوة من حمل سلاحه وخرج بائعا نفسه لله عز وجل لنصرة دينه وأرضه وعرضه وماله ومقدساته.


من هم المجاهدون الأخفياء؟

- المجاهدون الأخفياء هم الذين عرفوا ربهم، وعرفهم سبحانه وتعالى، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيرًا لهم.

- إنهم المجاهدون الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء جهادهم إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد جهادهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس.

- إنهم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة الجهادية المباركة، فكم من غزوة لا يُعرف من هو قائدها، وكم من ضربة نوعية كان خلفها مجاهدون أخفياء وأخفياء، وكم من عملية نوعية أصر صاحبها على عدم نشر صورته أو اسمه، وكم من عملية استشهادية رفض فارسها أن يُذكر منها شيء سوى أنه نُفذت وانتهى الأمر.


وقد حفل تاريخ الأمة بجميل قصص أخفياء المجاهدين، فمن ذلك:

- الصاحبي الجليل جليبيب رضي الله عنه، زوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى نادى منادي الجهاد فلبى النداء مسرعا، "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا. قال: انظروا هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيبا. قال: فاطلبوه في القتلى. فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحُفِر له، ما له سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد.


- وذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار قصة المجاهد الخفي صاحب النقب فقال: "حاصر مَسلمة حصنا، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد. فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الإذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء. فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا: ألَّا تسوّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب".


- وهذا عبد الله بن المبارك، نقل الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء عن أبي عمرو عبدة بن سليمان المروزي، قال: "كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة، فطعنه، فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت، فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه، فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا! [يقصد ممن يكشف ستره الخفي]".


وأخيرا: فبمثل هؤلاء يتنزل النصر المبين، حيث يطلع الله جل وعلا على القلوب الصادقة المخلصة، قال جل وعلا: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).




هنا بقية مقالات العدد العاشر من مجلة بلاغ


Report Page