العظماء عند المحن

العظماء عند المحن

مجلة بلاغ- العدد التاسع- رجب ١٤٤١


الشيخ: أبو حمزة الكردي


ليست العظَمة شعارا أجوف ولا صورة بلا مضمون، بل العظماء الحقيقيون هم سادات أقوامهم في السلم والحرب، وهم عند المحن نجوم الدجى ومصابيح الدنيا وأئمة السائرين، ولقد كان للعظماء على مر العصور والأزمنة بصمة واضحة ذات طابع خاص برزت في أصعب المواقف وأشد الفتن والمحن، فكانوا السباقين إلى المبادرة في البذل والعطاء والإقدام.


- وإن ذكرنا العظماء من البشر، فإمامهم وسيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعلم القدوة والرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم، وقد كانت مواقفه صلى الله عليه وسلم عند المحن دروسا للبشرية جمعاء، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا" متفق عليه، فهو صلى الله عليه وسلم انطلق فسبق، وعاد قبل أن تصل طلائع الفرسان، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.


- وفي الغار يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد أحاط المشركون بغار ثور، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: "نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما" متفق عليه.


- وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، إذا حمي الوطيس واشتد البأس يحتمون به صلى الله عليه وسلم، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من هو في الشجاعة والإقدام: "كنا إذا حمي البأس، ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه!!" رواه النسائي والحاكم، وحياته صلى الله عليه وسلم كلها تدل على العظمة، ومواقفه العظيمة صلى الله عليه وسلم عند المحن لا يحصيها كتاب، كصبره على أذى المشركين والمنافقين، وثباته على الدعوة، وحرصه على هداية الناس، وشجاعته عند اللقاء، وتحمله البأساء والضراء...


- أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فمواقفه عند المحن كثيرة مشهورة، كيف لا وقد سمي صديقًا لتصديقه الذي لا يتزعزع بالنبي صلى الله عليه وسلم في محنة تكذيب المشركين للإسراء والمعراج.

- ولما ارتدت معظم قبائل العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتردد كثير من الصحابة في الأولويات، تقدم الصديق أبو بكر رضي الله عنه فأنفذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى أرض الشام استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم رغم ما ظنه البعض من مخاطرة بالمدينة ومن فيها من المسلمين وسط أمواج الردة التي هزت جزيرة العرب، ثم كان إصراره على جهاد المرتدين والغلظة عليهم رغم قلة العدد وكثرة العدو وتآلب المجرمين والمنافقين، حتى أصبح موقفه مضرب المثل عبر التاريخ، فكلما هاجت أمواج الكفر والردة ولم يجدوا بطلا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه يصدها قالوا بحسرة: ردة ولا أبا بكر لها!


- والعظماء لهم مبادئ لا يتزحزحون عنها مهما كان، فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه ثبت في أصعب محنة مرت عليه حين ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت عندما تخلف عن غزوة تبوك، وأبى أن يقدم الأعذار الكاذبة وثبت على الاعتراف بالصدق رغم المرارة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر"، ورغم العقاب الذي ناله بهجران المسلمين له، ورغم الفتنة التي عرضت له بإرسال ملك غسان يغريه بترك المدينة والقدوم عليه، إلا أنه ثبت حتى نزلت توبة الله جل وعلا عليه: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)..


* وعلى درب العظماء الأوائل سار عظماء الأمة عبر التاريخ فامتلأت كتب التراجم بسير العظماء من علماء الأمة وقادتها ومجاهديها وأعيانها مما لا مثيل له في تاريخ البشرية، حتى جاء العصر الحاضر فكان للإسلام في كل موطن رجال حملوا أرواحهم فوق أكفهم يشيدون بنيان المجد العظيم، فسطر العظماء أسماءهم ولهجت الألسنة بجميل ذكرهم فلا تزال تسمع اسم عمر المختار، وعز الدين القسام، ومروان حديد، وعدنان عقلة، وإبراهيم اليوسف، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، وعبد الله عزام، وخطاب، وأحمد ياسين، وابن لادن، وعمر عبد الرحمن، وابن باز، وعلي طنطاوي، وزينب الغزالي.. وغيرهم وغيرهم وغيرهم، وكل واحد من هؤلاء وأمثالهم له مواقف عظيمة عند المحن سطرها التاريخ المعاصر بحروف من نور.


* إن العظمة الحقيقية تقتضي الصبر والثبات، والسبق والفداء، والطمأنينة التي لا تزعزعها الشبهات، والبصيرة التي لا تغطيها الشهوات..، إنها عظمة أصلها ثابت وفرعها في السماء، الكل يدعيها ولكن: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.


فسلام على العظماء في الخالدين وسلام عليهم إلى يوم الدين، وبعدا للأدعياء المجرمين المتشبعين بأثواب الزور الكاذبين.



هنا بقية مقالات العدد التاسع من مجلة بلاغ


Report Page