العَجَم في المجتمع المسلم

العَجَم في المجتمع المسلم

مجلة بلاغ العدد ٤٧ - رمضان ١٤٤٤هـ⁩⁩⁩







الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فقد ثار في الأيام الماضية حديث عن بعض غير العرب كالأكراد في المجتمع المسلم، فكان هذا التذكير بمسألة العجم وهم الذين لا يتكلمون العربية:

 

- من آيات الله تعالى اختلاف اللغات وتنوع اللهجات وتعدد الألسنة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)، قال ابن كثير في تفسيره: "واختلاف ألسنتكم يعني اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء إفرنج، وهؤلاء بربر، وهؤلاء تكرور، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء عجم، وهؤلاء صقالبة، وهؤلاء خزر، وهؤلاء أرمن، وهؤلاء أكراد، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم.

فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر عند التأمل، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر، إن في ذلك لآيات للعالمين".

 

- ورغم تنوع اللغات فإن اللغة العربية أفضل اللغات، نزل بها القرآن الكريم، وتكلم بها النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وشرعت بها كثير من العبادات كالأذان وقراءة القرآن في الصلوات والتكبير والتشهد..

 

- ولذلك شرع للعربي أن يتمسك في مجتمع العرب بالكلام العربي ويحذر التكلم بلغة العجم؛ لأن الحفاظ على العربية من أدوات الحفاظ على علوم الشريعة، بل إن الشريعة تحرص على حفظ المصطلحات الشرعية من تغييرها على يد العرب غير المراعين لها، قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ المَغْرِبِ» رواه البخاري.

 

- وبما أن القرآن والسنة أصلا علوم الشريعة فإنه يتعين على من سلك طريق العلم الشرعي من العجم أو تولى ولاية تحتاج إلى علم بالشريعة أن يتقن تعلم العربية ليفهم القرآن والسنة، قال الشاطبي في الاعتصام: "على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا.. ألا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب بالغا فيه مبالغ العرب..، وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة"، وكلما كان المرء أفهم للغة العرب كان أقدر على تحقيق عبوديات ونيل منازل صلاح وتقى لا يستطيعها من لم يعلم من العربية مثل علمه.

 

- وعلى العجمي المسلم أن يتعلم من العربية الحد الأدنى الذي يجب عليه بعينه؛ كحفظ فاتحة الكتاب والتشهد والتكبير والتسبيح..

 

- وتفضيل اللغة العربية لا يعني احتقار غيرها من اللغات، فقد تكلم كثير من الأنبياء بكثير من لغات العجم، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وفي هذه الآية دليل على مشروعية وجود دعاة يتكلمون بلغات العجم ليبلغوهم الدين ويعلموهم، ويحصل هذا بأن يتعلم بعض العجم العربية ويتقنوها أو يتعلم بعض العرب لغة العجم ويبلغوهم، كما ينبغي للعربي الذي تولى ولاية بين العجم أن يتعلم من لغتهم ما ييسر له أداء ولايته أو يتخذ ممن يعرف العربية ولغتهم من يعينه على ذلك، فالعُرف غير المعارض للشريعة مرعي ومعتبر.

 

- ومع تفضيل لغة العرب ووجوب تعلم المرء المسلم من العربية ما تصح به عبادته، فإن الإسلام لم يحارب لغات العجم ولا منع العجم من التكلم بها بينهم أو تعليمها لأبنائهم، وظلت لغات الأعاجم موجودة في كثير من مجتمعات المسلمين عبر قرون الحضارة الإسلامية، بل إن أكثر المسلمين اليوم هم عجم لا يتقنون العربية.

 

- وبقاء لغة العجم في المجتمع المسلم ومحافظتهم على عاداتهم اللغوية يكون في إطار الثقافة التقليدية، مع الحذر من أن يتحول ذلك لحركة شعوبية قومية تحارب العربية وتتمايز برابطة لغتها الوطنية على رابطة الإسلام.

 

- ويبقى التفاضل بين العربي والعجمي قائما على مقدار التقوى الذي يحصله كل شخص على حدة، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

 

والحمد لله رب العالمين.




هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٧ رمضان ١٤٤٤هـ

Report Page