السجون في الواقع الثوري (إشكاليات وحلول)

السجون في الواقع الثوري (إشكاليات وحلول)

مجلة بلاغ- العدد الثامن- جمادى الآخرة- ١٤٤١


الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير


زرت يوما أحد السجون فرأيت شابا حسن الهندام، فسألت عن سبب حبسه، فقيل: إن ليلة زفافه كانت بالأمس، وقد حصل إطلاق نار فرحا بالزفاف، وقد تقرر عندنا أنه إذا حصل إطلاق نار عند الزواج يتم حبس الزوج إلى أن يدفع أهله ثمن بارودة تعزيرا وزجرا عن هذا الفعل الذي قد يعرض حياة أبرياء إلى الخطر..


تأملت في هذه الحادثة، وصحيح أن هذه العقوبة قد تقلل ظاهرة إطلاق النار في الأعراس، ولكن الأثر السيئ الذي سيخلد في ذهن الزوج وزوجته وأهلهما والبيئة المحيطة بهما لا يمكن التغاضي عنه.


لم يكن هذا الموقف الوحيد الذي لاحظته في سجون الثورة عبر الأعوام الماضية، بل هناك الكثير من المواقف والأحداث التي تؤكد وجوب مراجعة هذا الملف الخطير وعلاج الإشكاليات التي ظهرت في طريقة التعامل معه.


* أولا- من أهم الإشكاليات المتعلقة بملف سجون الثورة ما يلي:


1- أن السجن تحول إلى عقوبة أصلية في عامة القضايا:

السجن والحبس مشروع في الأصل كعقوبة من ضمن عقوبات كثيرة أصلية وفرعية تهدف إلى تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وقد يستدل لها بقوله تعالى: ((فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، وقوله جل وعلا: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))..

فجواز الأصل وهو الحبس كعقوبة لا يعني جوازه وصلاحيته لكل عقوبة، فضلا عن أن يكون أصلا يصار له عند وقوع شخص في خطأ في أي قضية سواء أكانت جنائية أو جزائية أو مالية أو سياسية أو عسكرية أو إدارية.. 

بل وأصبح السجن أصلا يصار له كثيرا لا من أجل وقوع خطأ بل من أجل الاستيثاق والتثبت والاحتياط..، وأصبح قرار الحبس بيد عدد كبير من الجهات والاختصاصات.

ومما يزيد الإشكال قيام بعض الجهات بتقنين عقوبة السجن وجعلها أمرا لازما وعادة متبعة لعدد كبير من التجاوزات، فلا يكون للقاضي خيارات أخرى.

وهذا سبب زيادة أعداد السجناء، وزيادة الإشكاليات التي تترتب على ذلك.


2- أن السجن في الواقع الثوري يزيد ضخامة الإشكاليات الاجتماعية:

لقد نتج عن الحرب المستمرة منذ تسع سنين في سوريا الكثير من الإشكاليات الاجتماعية؛ مثل انخفاض معدل الدخل، وازدياد الفقر، وتهجير كثير من السكان، وغربة كثير من الأسر في المناطق السكنية التي تنزح لها، وتفرق الأسرة الواحدة في عدة مناطق أو دول، يضاف إلى ذلك المخاطر المستمرة المتعلقة بالقصف الهمجي، والانقطاع المتكرر للخدمات الرئيسية كالكهرباء والماء وبعض أنواع الدواء، وتدني المستوى التعليمي للأولاد في المدارس..، إلى غير ذلك من إشكاليات ظاهرة تحتاج دوما إلى جهد ومتابعة لتجاوز بعض آثارها.

فإذا أضيفت لهذه الإشكاليات إشكالية السجن الذي يقع غالبا على رب الأسرة أو على شخص محوري فيها، فإن هذا يؤدي عادة إلى الارتفاع الشديد في مستوى المعاناة، مما يجعل الأسرة في مهب الريح، لا تجد قوتها ولا تستطيع تحصيل مصالحها، مما يترتب عليه أحيانا عديدة التشريد والضياع لأسرة كاملة.


3- عدم قدرة المؤسسات الثورية على توفير الرعاية المناسبة للسجين:

السجن ليس مجرد أمر بحبس شخص، بل هو كذلك تولي مسؤولية شخص ورعاية أموره بعد منعه من مباشرة ذلك بنفسه خارج السجن، وهذا يستدعي توفير المكان المناسب للمقام فيه، وكذا الغذاء والفراش والدواء المطلوب... ويضاف إلى ذلك تيسير اطمئنانه على أهله واطمئنانهم عليه وزيارتهم له.

والسجن له هدف تربوي فلا بد فيه من مراعاة أحوال المساجين وأسباب سجنهم وأعمارهم وأخلاقهم، فللرجل سجن غير سجن الفتى، والمعروف بالاستقامة لا يوضع بين كبار المجرمين، ومن يراد الاستيثاق بحبسه تختلف معاملته عمن يراد كسر طغيان نفسه.

والمرأة المسجونة تحتاج إلى سجينات يحسن التعامل معها، وتحتاج إلى مراعاة حال أطفالها..

وكذلك اختيار المكان الآمن الذي يحميهم من قصف العدو ويقلل الخسائر لأدنى مستوى ممكن.

والواقع يؤكد أن كثيرا من تلك الأمور لا تتحقق، فيتم حشر الناس في سجون ضيقة يجد المرء فيها بصعوبة مكانا لنومه، مع الضعف الشديد في العناية الطبية فتنتشر الأمراض، ويعانون شدة الحر صيفا وشدة الرطوبة شتاء، ويكون الغذاء عادة متدني الجودة، ويجتمع في المكان الواحد الصالح مع الطالح والصغير مع الكبير، ويتم قصف السجون فيستشهد الكثيرون..، إلى غير ذلك من المآسي المعروفة.


4- أن التوسع في السجن يتنافى مع الطبع الثوري للمجتمع:

ليست الثورة مجرد اعتراض ضد الطاغية، بل هي كذلك إعادة تشكيل لنفسية المجتمع الثائر؛ بحيث تزداد فيه معاني وأخلاق العزة والكرامة والأنفة والإباء، ويبتعد أكثر عن أخلاق الخنوع والذلة والهوان..

والتوسع في السجون في هذا المجتمع الثوري، مع العجز بسبب الظروف المحيطة عن تهيئة أجواء من العيش الكريم والمعاملة الحسنة للسجين وأهله، يؤدي إلى شعور المجتمع بالإهانة والظلم من المجموعات الثورية التي تدير المكان المحرر الذي يقطنون فيه، وتتولد الكراهية بين المجتمع الثوري والفصائل التي تدير تلك السجون، مما يضعف الحاضنة الشعبية لتلك الفصائل، ويهدد بثورة مجتمعية ضد مظاهر الظلم والإهانة التي يستشعرها هذا المجتمع الثوري الذي يأبى الهوان ولو كان باسم الثورة.


* ثانيا- من أهم الحلول لإشكاليات سجون الثورة ما يلي:


1- توسيع دائرة العقوبة والضمان ليكون اللجوء للسجن في أضيق الحدود:

السجن في جل الحالات في واقعنا هو خيار له بدائل كثيرة، فإن كان السجن لعقوبة تعزيرية فالعقوبات التعزيرية، يمكن العفو فيها، ومن تتبع السيرة النبوية علم أن العفو كأنه أصل في كثير من المواقف التي ارتكب فيها البعض أخطاء ولو كانت كبيرة، فإن لم يكن العفو فهناك الصلح والإصلاح، وهو وسيلة شرعية لتجاوز كثير من الإشكاليات.

وهناك عقوبات أخرى غير السجن يمكن منها اختيار ما يناسب كل شخص وواقعة وبيئة؛ فمن ذلك: الاعتذار، والتوبيخ، والجلد، والهجر، والعزل من الوظيفة، وحلاقة شعر الرأس أو حلاقة الشوارب، والإقامة الجبرية في المنزل، والتشهير الإعلامي، والتكليف بعمل في خدمة عامة، والتعزير المالي، والحجر المالي، وسحب الأوراق الرسمية، والمنع من السفر، والإخراج من منطقة سكنية معينة...، وغير ذلك الكثير.

وهذا التعدد في اختيار العقوبات يقتضي التراجع عن التوسع في التقنين الذي ترتبت عليه زيادة أعداد السجناء؛ ليكون القاضي مخيرا في الاجتهاد وتوخي المصلحة حسب الوقائع المحيطة بالقضية.

وكذلك يمكن تضييق السجن في حالات الاشتباه والاستيثاق عن طريق التوسع في: الرهن، والضمان، والكفالة، والوكالة، والحجر، وتحديد الإقامة..، بناء على ظروف كل حالة على حدة.


2- تضييق الدائرة المخولة بقرار وضع الشخص في السجن:

من الملاحظ في المناطق المحررة أن إجراءات سجن الشخص أيسر كثيرا من إجراءات الإفراج عن سجين؛ وسبب ذلك تخويل عدد كبير من الجهات ومن المستويات الإدارية بتحويل الشخص إلى السجن، وحصر الإفراج بيد جهات أقل، والمطلوب قصر قرار السجن على أقل عدد ممكن؛ بحيث يقع السجن فعلا على من يستحقه، وتقل حالات السجن لأسباب واهية أو غير كافية أو لها بدائل أخرى.


3- تجهيز السجون ورفع كفاءة العاملين فيها بما يلبي احتياجات ومشاعر وأمن السجين وأهله:

السجن ليس مجرد قرار بإيقاف شخص ما، بل هو مؤسسة متكاملة تعنى باختيار المكان المناسب وتجهيزه باللوازم الفنية المناسبة؛ ليليق بكرامة الإنسان الذي سيدخله، ويلبي الاحتياجات التي تلزمه، ويكون واجهة ثورية مناسبة أمام أهل السجين..

ومما يساعد في ذلك جعل السجون مناطقية لا مركزية؛ بحيث لا تتكدس فيها أعداد المساجين، واختيارها في مناطق آمنة، وبمبان قوية وسيعة، وتوزيعها لأقسام عديدة تراعي أنواع السجناء وقضاياهم وأحوالهم..


وكذلك فإن التعامل مع العدو على الجبهات يختلف تماما عن التعامل مع السجين في القضاء، فالأصل أن يتم إعداد فريق السجن ثقافيا وتربويا وسلوكيا ليحسنوا التعامل مع المساجين وكذلك مع أهلهم بأخلاق الإسلام، مع علمهم بأن الأصل فيهم أنهم ليسوا طرفا ضد السجين، بل هم جهة خدمية وتنظيمية يؤدون الواجبات المنوطة بهم..


ولا مانع غالبا من التوسيع على السجناء في: لعب الرياضة، وإكمال الدراسة، والقيام بأعمال حرفية ومهنية وصناعية يتكسبون منها وهم سجناء، والتواصل الهاتفي المستمر مع الأهل، بل ووضع آلية لتيسير خروج السجين المؤقت أثناء فترة سجنه -طالما لا ضرر في ذلك- لزيارة أهله في المناسبات الاجتماعية كالزواج والولادة والمرض والوفاة والأعياد، وما شابه ذلك..


4- توجيه المنظمات والجمعيات والمجالس المحلية والخدمية والوجهاء إلى رعاية السجناء وأهاليهم:

من الوسائل التي تساعد على تجاوز بعض الآثار السيئة للسجن توجيه بعض الأعمال الخيرية لمزيد رعاية للسجناء وأهاليهم؛ بحيث تساعد تلك الأعمال الخيرية في تحسين طعام السجين ودوائه وملابسه وظروف إقامته في السجن، وكذلك تساعد أهالي السجناء في تلبية احتياجاتهم الاجتماعية والتربوية والتعليمية..؛ بحيث لا تضيع الأسرة مع غياب أحد أفرادها.


5- وجود لجان مراقبة ومحاسبة تعنى بمراعاة حقوق السجين وأهله:

من أمن العقوبة أساء الأدب، هي قاعدة تأخذ حكم الأغلب، فكلما ضعفت أو انعدمت المراقبة والمحاسبة تدهور الوضع الإنساني للسجين وأهله، فلا بد من اعتماد لجان ذات كفاءة وأمانة تنظر في أحوال منظومة السجن النظرية والعملية، لترتقي بها، وتحاسب المقصرين وتنتصف للمظلومين، وبذلك يمكن العمل على نشر ثقافة الثقة بين المجتمع والجهات الشرطية والقضائية.


والحمد لله رب العالمين.



هنا بقية مقالات العدد الثامن من مجلة بلاغ


Report Page