الحواجزُ النَّفسِيَّةُ التي أضرَّت بالثورةِ السوريةِ

الحواجزُ النَّفسِيَّةُ التي أضرَّت بالثورةِ السوريةِ

مجلة بلاغ العدد ٥٠ - ذو الحجة ١٤٤٤هـ⁩⁩⁩⁩⁩⁩




الأستاذ: أبو يحيى الشامي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: 


غَنِيٌّ عن العدِّ والبيانِ ما تعرَّضت له الثورةُ السوريةُ من تحدياتٍ وأضرار، ليست خارجيةً من قِبَلِ أعدائها فقط، بل تحدياتٍ وأضرارٍ ذاتيةٍ كانت أقربَ وأكبرَ وأخطر، فالمنتسبون إلى الثورة ليسوا على سَوِيةٍ واحدةٍ من حيث المبادئِ والأهداف والوسائل، وهذا الاختلافُ أدى ويؤدي إلى الخلاف، وإلى تكرارِ المثال الخالد في القرآن الكريم: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152].


بعد هذه الأعوامِ يمكن التمييزُ بين الكثير من الثائرين والمجاهدين ومن يدعون ذلك، منهم من ضرره محضٌ ويُعَدُّ في زمرة العملاء التابعين للعدوِّ المباشر أو العدو غير المباشر، ومنهم من ضرره فسادُهُ وإفساده وبغيه وغدره عميلاً كان أو لم يكن عميلاً، ومنهم من ضرره جهالتُهُ وخروجه على الأمة يضرب بَرَّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، لكن الذين امتازوا بالصبر والثبات ورفض التَّمرُّغِ في وحلِ الشهوات والشُّبُهات ما شأنهم؟!، ولماذا لا يفتح الله عليهم وينصرهم كما نصر القلة التي ثبتت مع طالوت؟!. 


إن الأهواء لا تعصفُ بأهل الباطل فقط، وإن كانت أهواؤهم صلعاءَ قالعةً، بل قد تعصف الأهواء بأهل الحق فتشتِّتهم، ويتَملَّكُهم الشُّحُّ فيكبِّلُهم، وتختلف آراؤهم فتزرع بينهم حواجز لا وجودَ لها في الحقيقة، إلا أنها تثبُتُ في أنفسهم فتميلُ مبتعدةً بها حاجزةً لها عن اللقاءِ والاتفاق على الثوابت والضروريات. 


لقد اجتمع أهل الكفرِ، واجتمع أهل العمالةِ، واجتمع أهل الفسادِ، فلم لا يجتمع أهل الحقِّ؟!، إنهم ليسوا من أهل الدنيا وزينتها، ويأبون التَّبعيةَ العمياء وبيع الذات مقابل القليل أو الكثير، فلماذا لا يجتمع أفرادُهم وتلتئمُ وتستقيم صفوفُهم؟!.. لا يفعلونه لأنهم وقعوا فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوىً مُتَّبعْ، وإعجابُ المرءِ بنفسه» رواه البزار والطبراني وحسنه الألباني، ليس هناك خلافات جوهرية بينهم، إلا أن اختلافاً في آرائهم أدى إلى الحواجز النفسية التي جعلوها ثوابتَ لا يتخطونها، وهكذا تتضخم المشاكل. 


معلومٌ أن المعصيةَ أسهلُ من الطاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ» رواه مسلم، والظلم أسهل وأسرع من العدل، الاستبداد أسهل وأسرع من الشورى، وإن الانغلاق والاكتفاء بالذات وما يوافقها ومن يوافقها أسهل من الانفتاح على الآخرين ومناقشتهم وتعليمهم أو التعلم منهم، ومحاولةِ إصلاحهم أو إصلاح ما يُظنُّ أنه خطأٌ فيهم أو في منهجهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ» رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني، هذا مع عموم الناس، فكيف مع المجاهدين الذين يُرجى نفعهم للإسلام والمسلمين، وهذا إن اعتبرنا أن الجالسَ في برجه المحيطَ نفسه بحواجزها يتأذى من مخالطةِ خصومه. 


الأكثرون من البشر يجدون أن العبوديةَ أسهلُ من الحرية، أسهل من حيث الثمن الذي يجب أن يُدفع لنيلها، وأسهل من حيث الاعتياد، فروتين العبودية أسهل من مستجدات وتحديات الحرية، وأسهل من حيث التَّبعاتِ، فمن يُحصِّلُ الحرية يجب أن يمارسها ويجاهدَ للحفاظ عليها، على عكس العبودية التي يديرها المالك ولا يُكلَّفُ العبد بإدارتها، ولذلك تجد كثيراً من العبيد يقاتلون ليحافظوا على عبوديَّتِهم يستسهلونها، ربما عبوديتِهم لذاتهم، وأقفاصِهِم ربما النفسيةِ التي هم صنعوها.


حتى السُّجناء يصابُ بعضهم بصدمةِ الإفراج أو "متلازمة ما بعد الحبس"، وهي باختصار خوفُ السجين من الخروج من السجن، حيث يكون اعتاد على نمط وروتين معين للحياة، فيه الحد الأدنى من مقوماتها متوفرٌ بدون بذلِ حيلةٍ ولا جهد، وفيه عدد العلاقات منحصرٌ جداً، يختصر للسجين معادلاته النفسية التي يضطر إليها يومياً، فيشعر بالبلادة الفكريةِ، ويحافظ على قناعاته التي يرى أنه غير مضطر لتغييرها، ولا تتعجب إن ارتكب أحدهم جرماً فقط ليدخل السجن، أو قال: إن الدنيا تظلم بعينه إذا خرج من السجن، هذا حقيقي وجرى كثيراً.


عندما تُطالع وتُراجِع مكونات الثورة السورية الأقل فساداً والأكثر صلاحاً، من ثوارٍ ومجاهدين، تكاد ترى الحواجزَ النفسيةَ التي بينهم، وكأنها حواجزُ بيتونيةٌ وترابية عليها المتاريسُ والأسلحة الرادعة، رغم أنها ليست حواجز عَقَدِيَّةً ولا مبدئية، وليست حواجز فعلية، بل حواجز نفسية مُتوَهَّمة وعقبات صغيرة متضخِّمة، يمكن تجاوزها إن قبل أصحابها بالتوافق على الأساسيات والانطلاق منها، لكن هل يقبل الطرفان أو الأطراف بذلك؟! 


بعض أصحاب الحواجز النفسية كما السجناء، عندهم خوفٌ من لقاء الناس ومناقشتهم في الأساسيات أو الثانويات، أو حتى إزالة الشحنات، لكي لا يخيب ظنهم فيهم ويظهر أنهم على خطأ كل تلك المدة من التَّعنُّتِ ورفض الآخر، كل تلك المدة من الأمراض النفسية والأخلاقية المزمنة، سوء الظن، الغيبة، النميمة، الحسد، التباغض، التدابر، مع الإكثار من الدروس والمواعظ عن التخلُّق بأخلاق السلف والدعوة إلى الاعتصام!، ثم يقول: فلان قبل سنوات قال كذا، ومنهجه كذا، فلان قبل سنوات.. وتوقف الزمن...


عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَباغَضُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ» رواه البخاري ومسلم. لا يحل أن تطول مدة الهجر لكي لا تكبر الأنفس وتتضخم الحواجز وتبعد الشُّقَّةُ، ويمتنع طرفا الهجر عن التقارب بسبب اعتياد بلادة البال واختصار العلاقات، وخوفاً من تكذيب الذات وظنها السيئ وما كالت من تهمٍ للطرف الآخر، وخوفاً من نزع ما ثَبَّتَت من سياج وجدران. 


في زمن انتشار الثورة وقوة الفصائل، كانت حالة ضيقِ الأفق والسعي للفوز المنفرد أكثر حضوراً، لكن بعد انحسار الثورة واجتماع ما بقي من الفصائل والأفراد في بقعةٍ جغرافيةٍ ضيقة، فات الأوان على التلذذ بحاجز "أنا خيرٌ منه"، فلقد أخطأ الجميع وتسببت أخطاؤهم بهذا الحشر والانحسار وعظيم الأخطار، فكان لزاماً على الصادق أن يعبر عن صدقه بالبحث عن الصادقين والاجتماع معهم على الطاعة والتَّطاوع. 


لم يعد هناك وقتٌ كافٍ ولا مساحة كافية للمهاترات والتحريش بين المجاهدين، ولا مجال للتَّخيُّر بين المخلصين، ولا يجوز البقاء عند الخلافات التي لا تعدو الآراء المعتبرة ويمكن إنهاؤها أو إبقاؤها بغير نكيرٍ ولا نفير، فلسنا نتحدث هنا عن عدوٍّ كافر، ولا عن خارجيٍّ مارقٍ، ولا عن حرباءَ متلونٍ، لم يترك ثائراً ولا مجاهداً إلا وغدر به، ولا رذيلة عيَّرَ بها غيره ولا خدمةً لأعداء الثورة إلا فعلها، بل نتحدث عمن ثبت ولاؤهم ووفاؤهم للدين والثورة في السنوات الماضية، وإن رافق ذلك ما يمكن تجازوه أو يمكن الجلوس لمناقشته، طالما أن المبادئ والأهداف واحدة. 


قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53]، من التي هي أحسنُ التي تعالجُ نزغ الشيطان وتطرده أن تكون النصيحة بالإشارة، ولو شئت لذكرت الأسماء، لكن الإشارة تغني وتُذَكِّر من يرون مشكلة الجلوسِ مع فلانٍ أو تقبله أو مناقشته للتأكد من منهجه وتعديل الموقف بناء عليه، يرونها أضخم من الهجمة الأممية على أهل الشام، والسعي الدولي لنصرة عدوهم وحل مشكلاته وتقديم الدعم له، هؤلاء يتحينون الفرص لنقض غزل من يخاصمونه من بعد قوة أنكاثاً للدلالة على خيطٍ أورَقَ في تلَّةِ صوفٍ أحمر، ويحاولون إيقاف التاريخ عند مشهد أثَّرَ في أنفسهم وحبسها بحواجزها. 


فسيمضي التاريخ، يمضي معه الثابتون على المبادئ المُغلِّبون مصلحةَ القضية الجامعة، ويبقى الثابتون على حواجزهم النفسية يجترون أحقادهم، يتلذَّذون بالنقاط التي سجلوها على ألواحهم ضد أنفسهم وقضيتهم، وهم لا يشعرون. 


اللهم أصلح شأننا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا، اللهم آمين.




هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٠ ذو الحجة ١٤٤٤هـ


Report Page