الجامع في فضح الشعوبية
سُني[[ فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم روميهم وفرسيهم وغيرهم. وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم: أفضل قريش، وأن رسول الله ﷺ أفضل بني هاشم. فهو: أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا. وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي ﷺ منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله ﷺ : أنه أفضل نفسا ونسبا، وإلا لزم الدور. ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، صاحب الإمام أحمد، في وصفه للسنة التي قال فيها: « هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها - فهو مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية .... ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم؛ لحديث رسول الله ﷺ " حب العرب إيمان وبغضهم نفاق " ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، فإن قولهم بدعة وخلاف ». ويروى هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الإصطخري عنه - إن صحت - وهو قوله، وقول عامة أهل العلم. وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم. وهؤلاء يسمون الشعوبية، لانتصارهم للشعوب، التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل: القبائل: للعرب، والشعوب: للعجم. ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب. والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق: إما في الاعتقاد، وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس، مع شبهات اقتضت ذلك، ولهذا جاء في الحديث: «حب العرب إيمان وبغضهم نفاق» مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس، ونصيب للشيطان من الطرفين، وهذا محرم في جميع المسائل. فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمرهم بإصلاح ذات البين، وقال النبي ﷺ : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» . وقال ﷺ : «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا، كما أمركم الله» وهذان حديثان صحيحان. وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة ما لا يحصى. والدليل على فضل جنس العرب، ثم جنس قريش، ثم جنس بني هاشم: ما رواه الترمذي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه قال، قلت «يا رسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي ﷺ : " إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، ثم خير القبائل، فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل " .
الكبى بالكسر والقصر، والكبة: الكناسة . وفي الحديث: " الكبوة " وهي مثل: الكبة . والمعنى: أن النخلة طيبة في نفسها، وإن كان أصلها ليس بذاك فأخبر ﷺ : أنه خير الناس نفسا ونسبا.
وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: «جاء العباس إلى رسول الله ﷺ ، فكأنه سمع شيئا، فقام النبي ﷺ على المنبر فقال: " من أنا؟ " قالوا: أنت رسول الله ﷺ . قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب "، ثم قال: " إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» قال الترمذي: " هذا حديث حسن " كذا وجدته في الكتاب، وصوابه: «فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» .
وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند، من حديث الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: قال العباس رضي الله عنه: «بلغه ﷺ بعض ما يقول الناس، قال: فصعد المنبر فقال: " من أنا؟ " قالوا: أنت رسول الله؟ قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقهم وجعلهم فرقتين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا» .
أخبر ﷺ : أنه ما انقسم الخلق فريقين إلا كان هو في خير الفريقين، وكذلك جاء حديث بهذا اللفظ.
وقوله في الحديث: «خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم خيرهم فرقتين فجعلني في خير فرقة» يحتمل شيئين:
أحدهما: أن الخلق هم الثقلان، أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم، وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة؛ كان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة، وله وجه صحيح . ثم جعل بني آدم فرقتين، والفرقتان: العرب والعجم. ثم جعل العرب قبائل، فكانت قريش أفضل قبائل العرب، ثم جعل قريشا بيوتا، فكانت بنو هاشم أفضل البيوت. ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم، فكان في خيرهم، أي في ولد إبراهيم أو في العرب، ثم جعل بني إبراهيم فرقتين: بني إسماعيل، وبني إسحاق، أو جعل العرب عدنان وقحطان، فجعلني في بني إسماعيل، أو بني عدنان. ثم جعل بني إسماعيل - أو بني عدنان - قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة: وهم قريش. وعلى كل تقدير، فالحديث صريح بتفضيل العرب على غيرهم
وقد بين ﷺ أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم، ثم لقريش، ثم للعرب.
فروى الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد - أيضا - عن عبد الله بن الحارث، حدثني المطلب بن أبي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: «أن العباس بن عبد المطلب، دخل على رسول الله ﷺ مغضبا، وأنا عنده، فقال: " ما أغضبك؟ " قال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش: إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك، قال: فغضب رسول الله ﷺ حتى احمر وجهه، ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل الإيمان، حتى يحبكم لله ولرسوله - ثم قال -: أيها الناس، من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه» قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح "
ورواه أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد .
هذا ورواه أيضا من حديث جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة قال: «دخل العباس على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله: إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله ﷺ، ودر عرق بين عينيه، ثم قال: " والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي» .
فقد كان عند يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث، هذان الحديثان:
أحدهما: في فضل القبيل الذي منه النبي ﷺ، والثاني: في محبتهم، وكلاهما رواه عنه إسماعيل بن أبي خالد.
وما فيه من كون عبد الله بن الحارث يروي الأول: تارة عن العباس، وتارة عن المطلب بن أبي وداعة، والثاني عن عبد المطلب بن ربيعة، وهو ابن الحارث بن عبد المطلب، وهو من الصحابة، قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد، وليس هذا موضع الكلام فيه، فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير، لا سيما وله شواهد تؤيد معناه.
ومثله أيضا في المسألة: ما رواه أحمد ومسلم والترمذي، من حديث الأوزاعي، عن شداد بن أبي عمار عن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» هكذا رواه الوليد وأبو المغيرة عن الأوزاعي .
ورواه أحمد والترمذي، من حديث محمد بن مصعب عن الأوزاعي ولفظه: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم: إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل: بني كنانة» . . الحديث، قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح " .
وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحاق، ومعلوم أن ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم؛ لما فيهم من النبوة والكتاب، فمتى ثبت الفضل على هؤلاء، فعلى غيرهم بطريق الأولى، وهذا جيد، إلا أن يقال: الحديث يقتضي: أن إسماعيل هو المصطفى من ولد إبراهيم، وأن بني كنانة هم المصطفون من ولد إسماعيل، وليس فيه ما يقتضي أن ولد إسماعيل أيضا مصطفون على غيرهم، إذا كان أبوهم مصطفى، وبعضهم مصطفى على بعض.
فيقال: لو لم يكن هذا مقصودا في الحديث؛ لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة إذا كان اصطفاؤه لم يدل على اصطفاء ذريته، إذ يكون على هذا التقدير لا فرق بين ذكر إسماعيل وذكر إسحاق.
ثم هذا - منضما إلى بقية الأحاديث - دليل على أن المعنى في جميعها واحد.
واعلم أن الأحاديث في فضل قريش، ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة، وليس هذا موضعها، وهي تدل أيضا على ذلك، إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس، وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه .فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها، ثم خص قريشا على سائر العرب، بما جعل فيهم من خلافة النبوة، وغير ذلك من الخصائص.
ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة، واستحقاق قسط من الفيء، إلى غير ذلك من الخصائص، فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها، والله عليم حكيم {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: ٧٥] و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: ١٢٤] " .
وقد قال الناس في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: ٤٤] وفي قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: ١٢٨] أشياء ليس هذا موضعها ومن الأحاديث التي تذكر في هذا ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا يزيد بن عوانة عن محمد بن ذكوان - خال ولد حماد بن زيد - عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «إنا لقعود بفناء النبي ﷺ إذ مرت بنا امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله ﷺ. فقال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم، مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي ﷺ ، فجاء النبي ﷺ يعرف في وجهه الغضب فقال: " ما بال أقوال تبلغني عن أقوام، إن الله خلق السموات سبعا فاختار العلى منها، وأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب، فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» .
وأيضا في المسألة ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان رضي الله عنه. قال: قال لي رسول الله ﷺ : «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك " قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: " تبغض العرب فتبغضني» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد .
فقد جعل النبي ﷺ : بغض العرب سببا لفراق الدين، وجعل بغضهم مقتضيا لبغضه.
ويشبه أن يكون النبي ﷺ خاطب بهذا سلمان - وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة - تنبيها لغيره من سائر الفرس؛ لما علمه الله من أن الشيطان قد يدعو بعض النفوس إلى شيء من هذا.
كما أنه ﷺ لما قال: «يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» كان في هذا تنبيه لمن انتسب لهؤلاء الثلاثة أن لا يغتروا بالنسب ويتركوا الكلم الطيب والعمل الصالح.
وهذا دليل على أن بغض جنس العرب، ومعاداتهم: كفر أو سبب للكفر، ومقتضاه: أنهم أفضل من غيرهم، وأن محبتهم سبب قوة الإيمان؛ لأنه لو كان تحريم بغضهم كتحريم بغض سائر الطوائف، لم يكن سببا لفراق الدين، ولا لبغض الرسول، بل كان يكون نوع عدوان، فلما جعله سببا لفراق الدين وبغض الرسول دل على أن بغضهم أعظم من بغض غيرهم، وذلك دليل على أنهم أفضل؛ لأن الحب والبغض يتبع الفضل، فمن كان بغضه أعظم، دل على أنه أفضل، ودل حينئذ على أن محبته دين؛ لأجل ما فيه من زيادة الفضل، ولأن ذلك ضد البغض، ومن كان بغضه سببا للعذاب بخصوصه، كان حبه سببا للثواب، وذلك دليل على الفضل.
وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث آخر، رواه أبو طاهر السلفي في فضل العرب، من حديث أبي بكر بن أبي داود حدثنا عيسى بن حماد زغبة، حدثنا علي بن الحسن الشامي حدثنا خليد بن دعلج عن يونس بن عبيد عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله ﷺ : «حب أبي بكر وعمر من الإيمان، وبغضهما من الكفر، وحب العرب من الإيمان، وبغضهم من الكفر» .
وقد احتج حرب الكرماني وغيره بهذا الحديث، وذكروا لفظه: «حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق وكفر» .
وهذا الإسناد وحده فيه نظر، لكن لعله روي من وجه آخر، وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان، فإنه قد صرح في حديث سلمان: بأن بغضهم نوع كفر، ومقتضى ذلك: أن حبهم نوع إيمان، فكان هذا موافقا له.
وكذلك قد رويت أحاديث، النكرة ظاهرة عليها، مثل ما رواه الترمذي من حديث حصين بن عمر، عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي» قال الترمذي: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق. وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي " .
قلت: هذا الحديث معناه قريب من معنى حديث سلمان، فإن الغش للنوع لا يكون مع محبتهم، بل لا يكون إلا مع استخفاف أو مع بغض فليس معناه بعيدا، لكن حصين هذا الذي رواه، قد أنكر أكثر الحفاظ أحاديثه، قال يحيى بن معين: " ليس بشيء " وقال ابن المديني: " ليس بالقوي، روى عن مخارق عن طارق أحاديث منكرة " وقال البخاري وأبو زرعة: " منكر الحديث " وقال يعقوب بن شيبة " ضعيف جدا، ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب " وقال ابن عدي " عامة أحاديثه معاضيل، ينفرد عن كل من روى عنه " .
قلت: ولذلك لم يحدث أحمد ابنه بهذا الحديث، في الحديث المسند، فإنه قد كان كتبه عن محمد بن بشر عن عبد الله بن عبد الله بن الأسود عن حصين - كما رواه الترمذي - فلم يحدثه به، وإنما رواه عبد الله عنه في المسند، وجادة قال: " وجدت في كتاب أبي، حدثنا محمد بن بشر. . . وذكره. . . " .
وكان أحمد رحمه الله - على ما تدل عليه طريقته في المسند - إذا رأى أن الحديث موضوع، أو قريب من الموضوع لم يحدث به، ولذلك ضرب على أحاديث رجال فلم يحدث بها في المسند؛ لأن النبي ﷺ قال: «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب: فهو أحد الكاذبين» . وكذلك روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، حدثنا إسماعيل أبو معمر حدثنا إسماعيل بن عياش، عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين، عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «لا يبغض العرب إلا منافق» وزيد بن جبيرة عندهم منكر الحديث، وهو مدني، ورواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين مضطربة.
وكذلك روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف بمطين حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي حدثنا يحيى بن يزيد الأشعري حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ : «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي» . قال الحافظ السلفي: " هذا حديث حسن ".
فما أدري: أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين، أو حسن متنه على الاصطلاح العام؟
وأبو الفرج بن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات، وقال: قال العقيلي " لا أصل له " وقال ابن حبان: " يحيى بن يزيد يروي المقلوبات عن الأثبات فبطل الاحتجاج به " والله أعلم.
وأيضا في المسألة: ما روى أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الجبار بن العباس وكان رجلا من أهل الكوفة، يميل إلى الشيعة، وهو صحيح الحديث مستقيمه، وهذا - والله أعلم - كلام البزار، عن أبي إسحاق، عن أوس بن ضمعج قال: قال سلمان: " نفضلكم يا معاشر العرب لتفضيل رسول الله ﷺ إياكم، لا ننكح نساءكم، ولا نؤمكم في الصلاة ".
وهذا إسناد جيد، وأبو أحمد هو - والله أعلم - محمد بن عبد الله الزبيري من أعيان العلماء الثقات، وقد أثنى عليه شيخه، والجوهري وأبو إسحاق السبيعي أشهر من أن يثنى عليهما، وأوس بن ضمعج ثقة روى له مسلم.
وقد أخبر سلمان أن رسول الله ﷺ فضل العرب، فإما إنشاء وإما إخبارا، فإنشاؤه ﷺ : حكم لازم، وخبره: حديث صادق.
وتمام الحديث قد روي عن سلمان من غير هذا الوجه، رواه الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي ليلى الكندي عن سلمان الفارسي أنه قال: " فضلتمونا يا معاشر العرب باثنتين، لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم " رواه محمد بن أبي عمر العدني وسعيد في سننه، وغيرهما.
وهذا مما احتج به أكثر الفقهاء الذين جعلوا العربية من الكفاءة بالنسبة إلى العجمي، واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة ليست حقا لواحد معين، بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح، حتى إنه يفرق بينهما عند عدمها. واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بهذا على أن الشرف مما يستحق به التقديم في الصلاة.
ومثل ذلك ما رواه محمد بن أبي عمر العدني حدثنا سعيد بن عبيد أنبأنا علي بن ربيعة عن ربيع بن فضلة أنه خرج في اثني عشر راكبا كلهم قد صحب محمدا ﷺ غيرة، وفيهم سلمان الفارسي، وهم في سفر، فحضرت الصلاة، فتدافع القوم، أيهم يصلي بهم، فصلى بهم رجل منهم أربعا، فلما انصرف قال سلمان: ما هذا؟ ما هذا؟ مرارا، نصف المربوعة - قال مروان يعني نصف الأربع - نحن إلى التخفيف أفقر، فقال له القوم: " صل بنا يا أبا عبد الله؛ أنت أحقنا بذلك، فقال: لا، أنتم بنو إسماعيل الأئمة، ونحن الوزراء ".
وفي المسألة آثار غير ما ذكرته، في بعضها نظر، وبعضها موضوع، وأيضا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء، كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم فأقربهم نسبا إلى رسول الله ﷺ، فلما انقضت العرب ذكر العجم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس، إلى أن تغير الأمر بعد ذلك. وسبب هذا الفضل - والله أعلم - ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك أن الفضل: إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح.
والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة. والعرب هم أفهم من غيرهم، وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة، ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني، جمعا وفرقا، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، إذا شاء المتكلم الجمع ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر، كما تجده من لغتهم في جنس الحيوان، فهم - مثلا - يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة، ثم يميزون بين أنواعه في أسماء كل أمر من أموره: من الأصوات، والأولاد، والمساكن، والأطفال إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي، التي لا يستراب فيها.
وأما العمل: فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير، معطلة عن فعله، ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن نبي، ولا هم أيضا مشتغلين ببعض العلوم العقلية المحضة، كالطب والحساب، ونحوها، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم: من الشعر والخطب، وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم، أو من الحروب. فلما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى: الذي ما جعل الله في الأرض - ولا يجعل - أمرا أجل منه وأعظم قدرا، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية، والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله. فأخذوا هذا الهدى العظيم، بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم: بمنزلة أرض جيدة في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاة والعوسج وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم: من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة: من العرب والعجم. ]]
📚 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية