التضحية في سبيل المبدأ

التضحية في سبيل المبدأ

مجلة بلاغ العدد ٦١ - ذو القعدة ١٤٤٥ هـ⁩⁩⁩⁩⁩⁩⁩









الأستاذ: أبو يحيى الشامي

 

 

في عام 2007 قرَّر رجلُ أعمالٍ أمريكي أن يفتح خمارةً بجانب كنيسة معمدانية، في قرية صغيرة في ولاية تكساس.

 

بدأ القِسِّيسون ومن يرتاد الكنيسة من متدينين حملةً لمنع افتتاح الخمارة، قدموا شكوى إلى البلدية وغيرها، لكن لا يوجد قانونٌ في بلادهم يمنع ذلك، فافتتاح الخمارة عندهم لا يخالف القانون طالما أن الإجراءات صحيحةٌ، وعندما يئس أتباع الكنيسة من الطرق القانونية، قاموا بالدعاء على الخمارة في كل ليلةٍ في كنيستهم.

 

وعندما اقترب موعد افتتاح الخمارة نزلت صاعقة في جو مُتَلَبِّدٍ بالغيوم وأحرقت الخمارة، فاحتفل أتباع الكنيسة بانتصارهم، واستجابة دعائهم على الخمّارة.

 

أمّا صاحب الخمَّارة، فرفع دعوى قضائية ضدَّ الكنيسة وأتباعها، وطالب بمليوني دولار بسبب المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة للكنيسة عنْ تخريب مشروعه الاستثماري.

 

المثير أن الكنيسة أنكرت في المحكمة كلَّ مسؤولية، ونفَتْ وجود علاقةٍ بين صلواتها ودمار الخمارة، واستدلت بدراسة للدكتور "هربرت لبينسون"، الأستاذ الملحد من جامعة هارفارد، حيث أكّد فيها أنّ لا تأثير للصّلاة والدّعاء على مُجْرياتِ أُمور الدُّنيا، وأيدها بذلك المجمع الكنسي!

 

تحيَّر القاضي، وعند النطق بالحكم الذي لا يهم بقدر أهمية المفارقة، قال: "لا أعرف كيْفَ سأحْكُمُ في هذه القضية، ولكن يبدو من الأوراق أنَّ لديْنا خَمَّارًا يؤمن بقوَّة الصّلاة والدُّعاء، ولديْنا مجْمعًا كنيسيًا بأكمله لا يُؤْمن به".

 

وهكذا يتقلَّبُ الناس بين مؤمن وكافر، حسب مصالحهم الشخصية أو الفئوية، وأهوائهم النابعة من منفعةٍ ظاهرةٍ أو خَفِيَّةٍ، الكنيسة التي تحضُّ الناس على الإيمان، عندما واجهت اختبار التضحية من أجل هذا الإيمان كفرت وأنكرت، ويستطيع القساوسة التبرير بأنهم اضطروا إلى هذه التَّقِيَّة لكي لا يدفعوا تعويضاً للخمّار، لكن هذه الحادثة المفارقة تنزل كالصاعقة التي دمرت الخمارة، لتدمر قلوب الملايين فيكفرون بما آمنت به الكنيسة في الرخاء وكفرت به في الشدة، ويبحثون عن دين جديد، أو لا يفعلون.

 

هذا الموقف مثال طريف، وهناك أمثلة كثيرة أخرى ربما تعلق في الذاكرة أو لا، لكن العبرة واحدة، وهي ظهور حقيقة الادعاءات عند استحقاق التضحيات، ولطالما تخلى أناسٌ عن مبادئهم عندما علموا أن التمسك بها يضرُّ بمصالحهم الشخصية أو الفئوية.

 

بالمقابل وفي ذات البلد "أمريكا" رأينا كيف اعتصم آلاف الطلاب المُنَعَّمِين المُترَفِين النصارى أو الملحدين، وأبناء عِليةِ القوم وكبار السَّاسة في جامعاتهم، دفاعاً عن غزَّةَ المسلمة ضد الحرب الصهيونية المجرمة عليها، فتحملوا الضرب والسحل والسجن، ومنهم من قام بتمزيق شهادته الجامعية في حفل التخرج، إنهم نصارى وفيهم من لا يعرف ديناً، لكنهم انطلقوا من مبدأ آمنوا به ووطنوا أنفسهم على التضحية من أجله.

 

اتصل بي طالب علمٍ في وقت اعتداءِ أتباع الجولاني على المتظاهرين والمعتصمين الذين يطالبون بالمعتقلين المظلومين في إدلب، يقول أن الناس بحاجة إلى تعلم العقيدة، فهم لن ينصروا مظلوماً ولن يهتموا لأشلاء ولا دماء ما داموا ليسوا أصحاب عقيدةٍ راسخةٍ ومبدأ قويم، فضربت له مثل الطلاب الأمريكيين هؤلاء، الذين ليس عندهم العقيدة التي يتكلم عنها، لكنهم قدموا ما لم يقدمه من يحمل الشهادات ويعتبر مرجعاً علمياً في العقيدة.

 

قلت له إن العقيدة موجودة فمجتمعنا مسلم، لكن المشكلة في السلوك والممارسة، والاستعداد للتضحية، والذي ينزل إلى ساحة المواجهة والتضحية يُعَلِّمُ الناس دروساً عملية في نصرة الدين والقضية، والحفاظ على المبادئ، وهذا ما أُمِر به الأنبياء والمرسلون والتابعون، وإن الأدلة أكثر وأشهر من أن تذكر، والفرق بين القول والفعل كبيراً جداً في بعض الأحيان.

 

المبدأ المُحق والفكرة العادلة تجعل الطالب النصراني في الولايات المتحدة والناشط الثوري أو الشيخ الشرعي المسلم في إدلب يجد حلاوة مواجهة الظلم، وتحدي الطغيان الذي يعارض هذه الفكرة ويسعى لوأدها ومنع تحقيقها، تسحله الشرطة الأمريكية أو يضربه شبيحة الجولاني بالعصي المليئة بالمسامير والمشارط، أو يقتلونه كما فعل جند بشار والسيسي والقذافي ونوري المالكي، وإن كان الاعتقاد الديني يزيد قوة وصلابة المسلم وثباته لأن الحق الذي يؤمن به يقيني، والعاقبة التي تنتظره أحلى وأغلى، لكن نعود إلى التذكير بالممارسة العملية والتضحيات.

 

إذًا، ولاختصار المقال، من لم يتأسَّ بالأنبياء والمرسلين، في صبرهم وثباتهم وتضحياتهم، فليخجل عندما يرى الكافرين يثبتون على مبادئ عادلةٍ، ويدافعون عن مظلومين ليسوا منهم، وليسوا في بلادهم، ولا يرجون مصلحةً قريبةً ولا بعيدةً في الدفاع عنهم، إلا لذة وحلاوة العيش من أجل مبدأ سامٍ وإن لم يكن دينياً، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يجعله دينياً فيكسب أجره في الدنيا والآخرة.

 

قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]

 

وقال الله تعالى: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد:38]

 

نسأل الله أن يستعملنا في طاعته، وأن يعيننا على التضحية في سبيله، وأن يثبتنا في معركة الحق ضد الباطل وجنده، اللهم آمين.





هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٦١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ⁩⁩⁩⁩

Report Page