التَّشخيصُ العميقُ لمشاكلِ الثَّورةِ

التَّشخيصُ العميقُ لمشاكلِ الثَّورةِ

مجلة بلاغ- العدد الثاني عشر- شوال ١٤٤١


الأستاذ: أبو يحيى الشامي


التشخيص مصطلحٌ يعني باختصار: تحديد طبيعة وسبب أي شيء، وهو عملية تستخدم في الكثير من المجالات لتحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى النتائج.


وأكثر ما يستخدم مصطلح التشخيص في المجال الطبي، وهو عملية تحديد المرض أو الحالة التي تفسر الأعراض والعلامات المَرَضِيَّةِ الظاهرة لدى الشخص.


والتشخيص كما يشمل الظواهر الطبيعية يشمل الظواهر النفسية والظواهر الاجتماعية، التي مثلها مثل أي ظاهرة في هذا الكون لها أسباب ونتائج، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات" (مجموع الفتاوى، ص 701).


ومن الأسباب ما هو جلي ومنها ما هو خفي، وهذا ينطبق على النتائج، ومنها ما هو مؤقت ومنها ما هو دائم، وهذا ينطبق على النتائج، ومنها ما هو أساسي ومنها ما هو ثانوي، وهذا ينطبق على النتائج أيضاً.


إن علاج أي ظاهرة أو مشكلة أو مرض، يعتمد على التشخيص الدقيق الذي يكشف السبب الحقيقي، ويربط السبب بالنتيجة، والتشخيص السطحي أو الخاطئ لا يكشف سبباً ولا علاجاً، فيستمر المرض وتستمر نتائجه الأساسية، وببعض الدواء قد تختفي نتائجه الثانوية (الأعراض)، ويكون وهْم الشفاء.


ومع سعي الفرد عند مرضه إلى عيادة الطبيب ليشخص حالته ويعرف سبب المرض، يغيب هذا الوعي أو يضيع في التجمعات البشرية، ما لم تفرضه طليعة واعية قادرة، ويقصد الفرد أكثر من طبيب حتى يصل إلى طبيب خبير يشخص حالته بدقة فيعرف السبب وعلاقته بالنتيجة ويصف العلاج، الذي قد يكون دواء يتناوله المريض، أو عملية ربما تكون عملية بتر لإنقاذه وإنهاء مشكلته.


ومع ظهور العلوم التجريبية والطب والعلوم الاجتماعية، وقيام العلماء بعملية التشخيص، وتأليف الكتب في خبرات كشف الأسباب والنتائج والعلاجات، تأخر تشخيص مشاكل التجمعات البشرية بطريقة علمية عميقة، وكان رائده ابن خلدون -رحمه الله- الذي دون في مقدمته أسباب ظهور الدولة (الحضارات أو المجتمعات) وانهيارها، وربطها بالنتائج في دورة تاريخية مقنعة اعتمد عليها علماء الشرق والغرب فيما بعد.


وكما أن لبعض الظواهر المرَضية أسباب ونتائج متعددة، فللظواهر الاجتماعية الإيجابية والسلبية أسباب ونتائج لا بد من دراستها مجتمعة وعدم إغفال أجزاء منها خاصة تلك العميقة المتجذرة، فإذا كانت الدراسة سطحية تنشغل بالأعراض (النتائج الثانوية) وتعمل على علاجها، أو تتعلق ببعض الأسباب غير الأساسية، كان العلاج مُسكناً فقط، واستمر المرض حتى تتحقق نتائجه الكارثية، ربما تكون هلاكاً محققاً.


إن عملية التشخيص سهلة إن كانت سطحية، يحسنها الكثير من الناس، فالأعراض والأسباب الظاهرة ترى بعين من يعيش الواقع ويتابع تحرك أجزائه وتفاعلها، لكن التشخيص العميق الذي يكشف الأسباب الحقيقية وعلاقتها بالنتائج الأساسية ليخلص إلى وصف العلاجات المناسبة لا يحسنه أياً كان، والعلم درجات، قال الله تعالى: {... نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقال سبحانه: {... يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة : 11].


ومع أن سياسة الناس كتجمعات وتشخيص مشاكلها وإيجاد الحلول لمشاكلها يحتاج إلى خبرة واقعية وإلمام بعدد من العلوم، إلا أن الناس يعترفون بأحقية وفضل أهل الطب بعضهم على بعض ويسلِّمون بتخصصاتهم، ولا يفعلون ذلك مع متخصصي السياسة الشرعية والعلوم الاجتماعية، بل يشخص كلُّ من يريد ما يريد بطريقة سطحية تكرس المشاكل ولا تحلها.


هذا الذي تقدم، كما ينطبق على التجمعات البشرية المستقرة، ينطبق أكثر على تلك غير المستقرة، التي تحتاج إلى الدراسة العميقة لحل مشاكلها الكثيرة، والمجتمعات التي تشهد ثورة هي أكثرها حاجة لمثل هذه الدراسات وهذا التشخيص، لكنها في المقابل أكثرها طلباً للتغيير ورفضاً له في نفس الوقت، طلباً لتغيير السلطة التي ثارت ضدها، ورفضاً لتغيير العقلية الثورية السطحية للوصول إلى النتائج المرجوة بأفضل الطرق وأقلها هدراً وخسائر.


هذا ينتج رفضاً لأي تشخيص عميق يكشف حقيقة المرض وأسبابه ويطالب بالتغيير الذاتي، إن كان التغيير يشمل الثورة أو بعض مكوناتها، فتحدث مشكلة جديدة معطلة وهي التشخيص السطحي الخاطئ والإصرار عليه، مما يصنع دوامة يصعب الخروج منها.


كل ما سبق مقدمة لنتيجة مهمة، أن الثورة السورية تعيش حالة مرَضية مركبة، كالمريض الذي يرفض الاعتراف بأنه مريض ويرفض الذهاب إلى الطبيب والسماع منه لكي لا يشخص مرضه ويحدد له علاجاً قد لا يحب مذاقه! أو يخشى وخزته!، وأكثر من يعيش هذه الحالة المرضية المركبة هم قادة الأحزاب ومنتسبيها، والمنتفعين من وجود هذه المشاكل ونتائجها، وهم كثر، ولكن أهل الحق والإصلاح هم الغالبون بعون الله وفضله.


بعد الاقتناع بجدوى عملية التشخيص العميق، لفرز الأسباب والحكم عليها، والكشف عن العلاقة بينها وبين النتائج، والحكم على أهمية النتائج، يمكن الانتقال إلى وصف العلاج المناسب، وإقناع المريض بتناوله... والتشخيص الصحيح أهم خطوات العلاج.


اللهم ألهمنا رشدنا، وأصلح شأننا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا.



هنا بقية مقالات العدد الثاني عشر من مجلة بلاغ



Report Page